العدمية كفكرة وليست كعالم


 

 

"العدمية ليست فقط الاعتقاد بأن كل شيء يستحق أن يُهلك، ولكن أن يدمر أحدهم الحرث والنسل" (فريدريك نيتشه، إرادة القوة 1901) 

هكذا نظر نيتشه للعدمية الغربية، خاصة الألمانية منها، على أنها اتجاه ابداعي نحو التغيير، لكن السؤال المطروح هنا: ماذا قصد نيتشه بتدمير الحرث والنسل ؟ هل بالفعل نيتشه ذلك الفيلسوف الإنساني والمسالم العاشق للمحبة والحب يقصد بالتدمير المعنى الحرفي لها ؟ 

في روسيا عُرفت العدمية كحركة ثورية منظمة وحرة، وذلك ابتداءً من سنة 1861 وبقي صداها راسخا لأزيد من نصف قرن في هذه البيئة التي تميز أناسها في تلك الحقبة التاريخية بالتوقف الفكري، وهنا الحديث عن نبذ كل ما هو خارج عنهم، ولعل كتابات دوستويفسكي هي الأكثر دليلا على ذلك، ليس من حيث الشهرة ولكن من حيث المحتوى، ولكن على ذكر مصطلح التدمير ها نحن نجد ميخائيل باكونين يبدع مقولته الشهيرة " دعونا نضع ثقتنا في الروح الأبدية التي تدمر وتبيد فقط لأنها مصدر الإبداع، اللانهائي العصي عن البحث، إن الشغف بالتدمير هو شغف إبداعي هو الآخر " في هذا الصدد ألا يمكننا القول أن هذه المقولة هي تعبير صريح للعدمية التي بها لاحقا نيتشه ؟ 

إن ما أتفق عليه وما يشاطرني فيه الرأي مدمني الفلسفة بكافة أطيافها، أنه لا وجود لإطار كرونولوجي محدد لنشأة العدمية كمفهوم كوني، لتصبح لاحقا مرتبطة بالفلسفة والسياسة ... وإنني هنا لست بمهاجم لها، ولكن هل توجد فعلا حقيقة ثابتة في نشأتها في رحم الفلسفة ؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه بكل موضوعية، ولكن الحقيقة التي لا غبار عنها هو كون العدمية وجدت ذاتها وعرفت أوجها في حضن الفلسفة، ولم نكن يوما لنوليها أي اهتمام لو لم يقدم فيلسوف المطرقة نظرته لها، وهنا سأقدم لكم النظرة التي يجب أن نقدمها للعدمية كذوات وليس كأتباع .

في البداية نيتشه لم يتكلم عن الدمار الفعلي وبالمعنى الحرفي لها، ولو أنه فعل فما كان ليبرز على الوجود كتابه غسق الأوثان ونقيض المسيح، الذين هما تعبير صريح عن تدمير فكري و موروث عقلي محض، إن نيتشه في إطار حديثه عن العدمية كتدمير قد قدمها كنبذ وتحطيم لأوثان المعرفة والعقول، فنيتشه يرى في العدمية تلك الآلية الوحيدة والأوحد لبناء حضارة بشرية جديدة وذلك بإستشراف المستقبل، بمعنى أن العدمية وظيفتها لا تعدوا أن تكون نظرية وليست عملية فمن خلال العدمية يجب أن ندمر المعتقدات السابقة والموروثات الأيديولوجية التي أسماها نيتشه في ذات المصدر " غبار البشرية"، التي لا يجب حقا أن تسمى حضارة لأنها لا تنبع من تفكير غقلي وإنما مقيدة في الزمان والمكان وكذلك بالرهاب الديني "الكنيسة" وهنا يمكن لنا القول أن العدمية حسب نيتشه هي مشروع للمستقبل ولكن من منطلق الماضي دائما، هنا أنوه أنه لا يوجد نسق فكري موحد ومنتظم لدى نيتشه، فالفكرة التي يناشد بها لليوم، يكذبها غدا، وهو نفسه لم يقدم كتابا جامعا لأنساقه الفكرية وكلاً متكاملا وهنا يقول في مقدمة كتابه إرادة القوة " إنني أحذر من جميع الأنساق وأتحاشاها، ولكن النسق الذي تحاشيته ربما يكون متخفيا وراء هذا الكتاب " وإنني أستغرب كيف لم يحصل هذا الكتاب على شعبية عربية والمهتمين بالفلسفة النتشوية، يمكنني القول أن هذا الكتاب يمثل ثمرة صراعات فكرية كان يتخبط فيها نيتشه، ولربما نيتشه قد اعتبره الإنجيل خاصته.

قد رفض العدميون الله والسلطة كونها مناقضة للحرية، ولطالما ارتبط مفهوم العدمية بالحرية كتعبير صريح من هذا التوجه الفلسفي نحو تقبل كل ما هو خارج عن المألوف ولكن في ذات الوقت هذا الجديد لا قيمة له، لأنه مبني على مسلمة وجودية، لهذا غالبا عند اطلاعي على ما كتب حول العدمية من المؤلفات العربية، دائما ما تتحدث عنها بصيغة واحدة ومن منطلق وجودي، أي دائما العدمية مرتبطة بانعدام القيمة، بينما توجد عديد المسارات في هذا الصدد ( العدمية الأخلاقية - العدمية السياسية ..) وهنا أستحضر الكتاب النقدي المعنون ب "تراجع الغرب " لمؤلِفه أوزوالد سبينجلر والذي أكد فيه أن العدمية عي الصفة الحاضرة في جميع الحضارات المنهارة سابقا، بدءا بالعدمية الفاوستية بمعنى جميع الحضارات التي ماتت ومن أنقاضها قامت حضارات أخرى جائت من منطلق فكري بتحطيم كل ما هو مثالي بالأساس.

وكي أبتعد قليلا عن الحديث الأكاديمي وأتحدث معكم ومعكن باللغة الشعبية، أقول لكم أن العدمية ليست عالما عبارة عن سواد وهدووء دائم، هي ليست عبارة عن نومٍ عميق دون إستيقاظ، هي ليست شلل كلى على مستوى الجسد والعقل، إن العدمية بمختلف أطيافها عبارة عن فكرة والفكرة لا تموت لكنها قابلة للإنتقاد، وهنا أوصي بصفة شخصية بعدم اتباع المنظور التقليدي للعدمية والذي في نظري هو منظور هش يقوم في أساسه على نبذ كل ما هو وجودي وفكري فقط لأنه يود ذلك، وأن السلبية والتشائم والإحباط هي من صفات العدمي، وأن الانتحار هو الحل الذي قدمته للعدمية لإنهاء مأساة الوجود.... أتحدى أي شخص في هذا الصدد أن يأتيني ولو بعبارة صريحة ارتبطت فيها العدمية بالسلبية، وكذلك نفس التحدي موجه للذين يقولون أن العدمية قدمت الانتحار كحل، وهنا أتحدث من منطلق معرفي وعلمي ولست بحاقد على أي من الحثالات الكيميائية التي تقرأ هذه السطور، لأنه في النهاية سيأكل الدود عقلك ويقول في قرارة نفسه اللاموجودة " لحم لذيذ " 

ختاما أقول تبا للذين يعتقدون بالعدمية كعالم، لأنه لوكانت فعلا كذلك لإنهارت وتدمرت مع الحضارات السابقة، ذلك أنه لا يوجد عالم ثابت في الزمان والمكان، في المساحة و المقياس، ولكي تفهموا العدمية بالشكل الصحيح يجب أن تكونوا على دراية جيدة بأساسيات الوجود، كالمنتقد الفطن الذي لا يقرأ كيف ينتقد بل يقرأ ما قيل عن الانتقاد . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش