كيف لا أكون وجوديًا؟!أنيس منصور


 



مدرسة العالم النفسي الكبير فرويد ترى أن كل متاعب الإنسان قد بدأت في الطفولة، فالطفولة كنز لا يفنى، أنا أحد المؤمنين بهذه النظرية، وقد جربتها وطبقتها فكان أكثر من عشرين كتاباً من مؤلفاتي، آخر هذه الكتب كتاب عنوانه «البقية في حياتي.. لوحات تذكارية على جدران الطفولة»، وقد وجدت أن الكثير من الذي عانيته رجلا قد بدأ في طفولتي وامتد إلى بقية حياتي، والأمثلة كثيرة.

فقد لاحظت أن اتجاهي إلى الفلسفة الوجودية غريب، وإلى نوع من الوجودية، فنحن طلبة الفلسفة انقسمنا: شيوعيين وإخواناً مسلمين ووجوديين، وكان أستاذنا هو الدكتور عبد الرحمن بدوي، وهو الذي قدم لنا الفلسفات الوجودية الألمانية والفرنسية والروسية والإسلامية أيضاً عند الصوفية. وأول كتاب عن الوجودية باللغة العربية السهلة كان كتابي سنة 1951 وعنوانه «الوجودية»؛ وهذا الكتاب قد طبع أربع مرات في شهر واحد، ونفدت نسخه المائة ألف، ولا بد أن يكون السبب هو أن الموضوع على لسان الناس، وأنه جاء في عبارة سهلة.

ولكن لماذا الوجودية؟ فقد كانت طفولتي شديدة القلق، وكنت أقيم في الريف، وكان والدي يتنقل من مكان إلى مكان مديراً لزراعة عدلي باشا يكن ثم عز الدين بك يكن ثم نعمت هانم يكن. هو يتحرك ونحن وراءه، وكنت وحدي مع أمي، وأمي هي مصدري للعلم والحكمة، وما تقوله قانون، ولم أعرف إلا في سن متأخرة أنه يمكن مناقشة قوانين أمي والاعتراض واختيار سبل أخرى للمعرفة. والصورة هكذا: أنا وحدي وقد انكفأت على القراءة، وليس لي أصدقاء ولا زملاء، فأنا تلميذ متفوق والزملاء لا يحبونني ولا يلعبون معي، وأنا أجلس في الفصل في الصف الأول، فإذا سأل المدرس كنت أول من يرفع يده لكي يجيب.

وكان من نتيجة هذه العزلة أو هذه الوحدة شعوري بالغربة والاغتراب، والحرص على ذلك، ولم يحدث أن قلت: شارعنا، بيتنا، أقاربي، أصحابي، وإنما أقول: الشارع، البيت، الزملاء، فليس لي شيء في أحد أو عند أحد، وأحسست أن المثل الإغريقي القديم على مقاسي: المثل يقول: الحجر المتحرك لا ينبت عليه العشب، فأنا هذا الحجر ولم تنبت على هذا الحجر الدائر الدائخ: لا صداقة ولا مودة ولا قرابة ولا أخوة، وظل الكثير من المشاعر الإنسانية العادية نوعاً من الترف، وفي إحدى المرات بكيت على نفسي فقد وجدتني أجلس في سيارة يطير الغبار وراءها ليلا، وقد وضعت ساعة الحائط على حجري وملابسي وكتبي إلى جواري، وأحسست أنني حانوتي وأن الزمن مات وهو في نعش والنعش على ركبتي، وكلنا في قبر الليل، أو وحدي في قبر من الليل والوحدة والغربة. وكلها مفردات وعتبات الطريق الذي يفضي إلى الوجودية، أو هو الطريق الملكي لأن أكون وجودياً، وكنت، وعجز الزمن أن يزحزح أو يحرك أو يلغي شعوري بأنني غريب في أرض غريبة، وكما أنني ولدت وحيداً وعشت وحيداً، فالنهاية أيضاً!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش

على الطريق \ فريدريك نيتشه

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

كتاب مت فارغا \ تود هنري

تسلية أنفسنا حتى الموت \ نيل بوستمان

عندما تحب روحًا عتيقة \ لويزا فليتشر