في المرآة \ عبد الوهاب مطاوع
سامحه الله أوسكار وايلد !.
فمنذ أن قرأت له روايته الشهيرة «صورة دوريان جراي» منذ أكثر من عشرين سنة .. فتح أبواب الجحيم أمامي ، وعلمني هواية التفرس في وجوه
الآخرين لاستجلاء حقيقتها .. وأفسد علي بعض معايري فأصبحت أرى الأسود أبيض والأبيض أسود والجميل قبيحا ، والقبيح جميلا ..
_ففي هذه الرواية اللعينة روى أوسكار وايلد قصة لورد شاب ثرى وسيم بريء الملامح ، سعی يوما إلى فنان ، ليرسم له صورة فرسمه الفنان كما رأته
عيناه : وجها بريئا جميلا وملامح طفولية ، وعلق دوریان جراي اللوحة في قصره ، وعاش حياته ولم يكن بريئا كما يبدو في ملامح وجهه ، ولا نبيلا كما
يوحي مظهره ، وإنما كان وغدا أنانيا شريرا ، لا ترده قيود ، ولا تحكمه قيم.
فخدع فتاة أخلصت له وتخلى عنها فانتحرت ، ومضى في الدنيا يجرى وراء أهوائه ولا يقيم وزنا لأخلاق ولا قيم ولا صداقة ، وكلما ارتكب جريمة جديدة أو أذى انساناً آخر نظر إلى وجهه في المرآة فرأى نفسه فيها شابا بريئا وسماً كما كان ، وحين التقي به شقيق فتاته التي حطم حياتها منذ عشرين سنة لينتقم منه لشقيقته ويقتله أنقذه من الموت نفس هذا الوجه البريء ، فقد توسل له دوریان جراي - کاذبا - أن يدقق النظر في وجهه ليرى هل من الممكن أن يكون هو نفسه من حطم حياة شقيقته منذ عشرين سنة ودقق الشقيق النظر فرأى وجه شاب بریء الملامح ، أصغر من أن يكون هو الوغد الذي يطارده فأخلى سبيله ، ومضى يبحث عن المجرم الحقيقي ! ونجا دوریان جرای من الموت ، لكنه لم ينج من عذاب الضمير ، فقد اكتشف منذ فترة أن جرائمه وشروره لا تترك آثارها على صفحة وجهه ، لكنها للدهشة تنطبع تدريجيا على ملامح الصورة الزيتية المعلقة في الصالون !
فكلما ارتكب إثما جديدا فقد وجهه في الصورة بعض براءته ، وكلما آذي إنساناً أضيفت إلى ملامح وجهه تجاعيد ودوائر سوداء جديدة ، وعندما اقترف أكبر شروره نظر إلى الصورة فوجد وجهه فيها قد اكتسب ملامح شيطانية كاملة تصور حقيقته التي يخفيها وجهه البريء ، فخشي أن تفضح الصورة أمره ، ونقلها من الصالون إلى "البدروم" وأخفاها عن الأنظار !.
👈والفكرة خيالية بالطبع ، لكنها صادقة إلى حد كبير، فلقد أراد أوسكار وايلد أن يقول إن لكل إنسان صورتين : إحداهما حقيقية هي التي يعرفها عن نفسه ، وتعكس سريرته بآثامها أو أفضالها ، وأخرى مزيفة هي التي يظهر بها أمام الآخرين .
ومنذ قرأت هذه الرواية ، وأنا أنامل الوجوه ، وأحاول دائما أن أبحث فيها عن الصورة الحقيقية لأصحابها ، وأحكم على الآخرين بأخلاقهم لا بأشكالهم ، و بأفعالهم الخيرة أو الشريرة لا بمظهرهم ولا ملامحهم ، فأرى القبح والجمال بمقاييس مختلفة تماما ، فأرى مثلا في شخص ناصع البياض أنه زنجي ، لأنه زنجي القلب لا يكف عن إيذاء الآخرين ، ويحقد على الجميع ويتمنى لو صحا يوما من نومه فرأى الأرض قد خسفت بكل الناس ، حتى لا يبقى فوق ظهر الكرة غيره .
وأرى في إنسان محروم من الوسامة أنه أجمل من «نارسیس » لأنه كريم الخلق جميل الروح مفعم القلب بحب الآخرين لا يؤذي أحدا ، ويسعى بكل ما يستطيع لإسعاد غيره وهكذا.
ورغم أني تعرفت على هذه الفكرة لأول مرة في رواية أوسكار وايلد ، فقد عثرت على شيء شبيه بها فما قرأته من أوراق الصوفية فيما بعد فلقد قرأت لأحد كبارهم أنه كان يقول وهو من هو في صفاء روحه وطهارته :
((إني لأنظر في المرأة كل يوم مخافة أن يكون قد اسود وجهی !.))
أي مخافة أن يكون قد حمل حقداً أو كراهية لأحد ، فتنطبع آثارهما على صفحة زجهه.!
فماذا يستطيع إذن أن يقول من يتنفسون الكراهية ويطربون لإيذاء الآخرين ، و يسعون بكل جهد للإضرار بغيرهم حتى ولو لم يسيئوا إليهم ؟
وماذا يستطيع أن يقول من لا يحفظون عهدا ولا يقيمون وزنا لدين ولا خلق ولا قيم في حياتهم .
وكم صورة كصورة دوریان جراي يحتاجون إليها لكي تنطبع عليها آثار الشر والكراهية والحقد الذي يعشش في ظلام قلوبهم ؟ وبأي ملامح شيطانية
كريهة سوف تظهر صورتهم الحقيقية بغض النظر عما تحمله وجوههم من ملامح وقسمات ؟
لقد كان إمام الصوفية الغارق في بحار الحب ينظر في المرأة كل يوم ، فانظر أنت أيضا يا صديقي فيها . وحاول أن تحتفظ بشبابك ووسامتك الحقيقية فيها ، وَجَمِّلْ وجهك بحب الآخرين ، والكف عن الأذى ، و بأسعاد غيرك بقدر ما تستطيع ، فلكل منا مرآة سوف تنطبع عليها صورته الحقيقية ذات يوم فتفضح سريرته الخفية ، ولكل منا يوم سوف يعرض فيه على ملك الملوك .
فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ويجيء بعضنا بوجوه شائهة كريهة ، ويجيء البعض الآخر بوجوه نبيلة كريمة ، ولا علاقة لهذه الوجوه الحقيقية بما حملنا طوال حياتنا من ملامح جسدية ، لأنها حصاد رحلتنا في الحياة من الخير والشر ، ومن الجمال والقبح .. فإلى اللقاء هناك !.
من كتاب صديقي لا تأكل نفسك
تعليقات
إرسال تعليق