الموت والغربة خارج حدود العقل


 

"اننى أشعر بأن الحياة كابوس مؤلم..انظر حولك. تجد الحروب و  المآسي والكراهية والظلم. .والموت يتربص بنا من كل جانب" هكذا عبر يوجين يونيسكو عن تشاؤمه وعن الوضع الانساني بصفة عامة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. .وسط الرماد. .ودخان الحرائق المتصاعد. .والوجوه البشرية المشوهة والعائلات المشردة. .وشبح القنبلة الذرية يلقي بظله فوق العالم. .منتصبا. .ضاغطا بقوة العقل الانسانى ليتذكر انه مهدد بالفناء في أي لحظة. .وليتذكر أيضا أن الكبير والصغير الرجل والمرأة. .جميعا. .يقفون على مسافة واحدة من  القبر،، و يوجين يونسكو واحد من أشهر أدباء اللامعقول أو أدب العبث. . أو الادب الطليعي في العصر الحديث- وقد ظهر هذا الاتجاه نتيجة لظروف اجتماعية بالغة التعقيد وكنتيجة للقلق الذي يعيش فيه الإنسان، ، فتاريخ الإنسانية، ، تاريخ دموي ،، حافل بالمجازر و المشانق والإبادة الجماعية، ، والتاريخ  يثبت أن الحرب هي السمة السائدة عبر كل العصور، ، وهناك حقيقة مفزعة-لا شك أن الكثيرين لا يصدقونها- وهي أنه طوال 3421 سنة الماضية، ، لم تتوقف فيها نيران الحرب سوى 286 سنة فقط،، هذه الحقيقة تدل  على أن الإنسان يتنفس الموت ويعيشه فقط من أجل الموت، ، وإذا كان أكل آدم من شجرة المعرفة المحرمة يعتبر هو الخطيئة الأولى. .فلا شك ان قتل قبيل لأخيه هابيل يعتبر الخطيئة الاكبر في التاريخ. .وسط هذه الحقائق الفظيعة عن النفس البشرية. .وألهزلية المتكررة التي مني بها الانسان في صراعه الابدي مع قوة الطبيعية. .وازدياد الوعي في الآونة الاخيرة بشكل الضياع والقلق والغربة. .وازدياد ضغط حقيقة الموت والفناء على العقل. .كل هذه الاشياء جعلت الواقعية تنحسر تدريجيا. .ويتوقف تأثيرها في الفن والأدب. .وأصبحت من الصعب ان تستمر.فظهرت الرمزية والدادية والتعبيرية. .ثم أخيرا وبعد الحرب الأولى. .ظهرت السريالية كدعوة صريحة لرفض الواقعية وتحطيم ابعادها التي تشوه الانسان وتجعله مخلوقا مسطحا. .فالواقعية تدعي تصوير الحياة بعدسة بالغة الدقة. .بينما هي تنقل شرائح جافة جامدة من الحياة. .فيبدو الواقع ميتا وخاليا من الانفعال. .فالواقعية لم تكن تفعل أكثر من نقل صور فوتوغرافية. وجثت المعاني. .وتحاول ان توصلها الى الانسان. ..ولكن الانسان يرفض ان يستعيض عن الحياة الحقيقية بصور كرتونية ميتة. .لأن الواقع الحقيقي كان مختلفا عن ذلك. . كان يحتاج الى قدر كبير من الحرارة. .حرارة الحياة نفسها ولا بد للحصول على هذه الشحنات من طاقة الحياة من اللجوء الى الإنسان نفسه. .أى إلى استعادة الحياة ومحاولة خلقها من جديد. .وذلك عن طريق الحلم والتخيل. .فجاءت السريالية باحلامها المشرقة و بالحب البهيج للعالم ولكل الاشياء. .غير ان التفاؤل الزائد عن الحد هو الذي شكك الناس في قدرة هذا المذهب على الاستمرار. . .واى فلسفة اخرى ولو كانت معتدلة في تفاؤلها وليس مفرطة فيه كالسريالية لا يمكنها الاستمرار في النظر إلى العالم بهذا المنظار البهيج بعد أن طحنت الحرب الكونية الثانية سكان العالم. .وقرر الفنان أخيرا أن يتحرر من كل القيود التي تحد من حريته وانطلاقه. . أن يتحرر حتى من البهجة وأن يتجه إلى الداخل أى الى داخل الإنسان نفسه خاصة بعد ظهور نظريات فرويد وكشفه عن اعماق الإنسانية المتمثلة في اللاشعور أو العقل الباطن. .فظهرت الوجودية بتقديسها للانسان والحرية والوجود. .وقد استطاعت الوجودية فعلا ان تعيد للانسان اعتباره وان تمنحه قيمته الحقيقة وتظهر له دوره فى تحديد مصيره ولكنها أيضا اشعرته بضعفه وغربته وسط هذا العالم. .وذلك حين جعلته هو المسؤول الأول والأخير عن الحروب والدمار والموت الاختياري الذي حل بالعالم،، وحين وضعت على كتفيه مسؤلية كل شيء في العالم لقد قالت لكل انسان. .انت الوحيد المسؤول عن عذابك والامك. .فلا تشكو لأحد وتحمل في صمت. .انت خالق نفسك باعمالك وتصرفاتك. .فالانسان ليس مجرد تركيب بيولوجي. .بل هو الفعل. .والانسان وحده يستطيع ان يجد قيمته برقى عمله أو انحطاطه وحين اعلن سارتر على الملأ أن كل موجود يولد دون مبرر ويعيش بسبب ضعفه وخوفه ثم يموت بفعل المصادفة. كان ذلك صدمة تدعو الى اليأس فعلا. .غير ان اليأس لا يعتبر حلا لمشكلة الحياة ولا يعطيها بعدا جديدا. .فنحن علينا على الأقل أن نجعل الحياة تحتمل أن تعاش فبالرغم من أن الموت هو الحقيقة الكبرى في العالم. .وبالرغم من أن كل يوم نعيشه. .فإننا نموته أكثر مما نحياه. .فالحياة ما هي الا مسيرة بطيئة نحو الموت. .ولكن علينا على الاقل أن نستمتع بالطريق. .ونحن الذين نستطيع ان نمنح الطريق قيمة أو نجعله طريقا داميا ينز بالمرارة واللامعنى. .فالحياة بصفة عامة كما يقرر سارتر" لا قيمة لها ولا طعم قبل أن أوجد. .ومعناها بعد وجودي هى نتاجي انا. .أى نتاج اختيارى". 

   ولكن الانسان ضعيف ويحتاج دائما الى مشجب يعلق فيه همومه ومشاكل وجوده. .لابد له من نظريات يفسر على ضوئها كل اعماله ويبرر بها الخراب الذي يحل بالعالم كل لحظة. .لذلك وصفوا الوجدية بالتشاؤم واليأس. .وأن كل الذي قدمته للعالم. .هو انها علقت في كل انسان ورقة مكتوبا فيها" هذا الكائن ولد لكى يموت. .ويجب ان يموت"..لذلك فقد كان لابد من انتظار مولود جديد نتيجة لهذه الظروف. ..وكان اللامعقول. .أو العبث. .وان كان هو في الواقع يمكن اعتباره امتدادا للسريالية والوجودية. .فإذا كانت السريالية قد أطلقت ميولا عنيفة في النفس الانسانية وفتحت عوالم جديدة لم تكن معروفة من قبل الا ان دورها قد توقف عند ذلك الحد. .وقد أوضح انيس منصور ذلك بقوله" عيب السريالية من وجهة نظر اللامعقول انها انبهرت بهذا العالم الجديد الذي اكتشفته ثم أصابها هذا الانبهار بالعمى والصم. .تماما كالذي فتح عينيه في قرص الشمس واصابه الضوء الشديد بالعجز عن الرؤية. .فى حين أن الفنان اللامعقول يرى أنه يجب ان يستلم لمشاعره التلقائية. .فكل عمل يقوم به هو مغامرة فى دنيا جديدة. .هو ارتياد لعالم غريب تتكشف فيه حقائق قوية". فعلى الفنان ان يستسلم للتلقائية. .ولكن يجب الا يغرق فيها. .

   أما من ناحية العمل الأول الذي انطلق معبرا عن لا معقولية العالم. .فانيس منصور يعتقد ان بداية الثورة على الواقعية والعلوم والطبيعة. .كانت سنة (1888). حين  عرض (الفريد جاري) مسرحيته الأولى التي تقبلها الناس بالفزع والرعب لانها وان كانت عبثية وغير مألوفة. .الا انها كانت معقولة ومخيفة. .لأنها أظهرت اعماق الناس المتعفنة. .ونزعت الستار عن القدارة المترسبة في النفوس. .وحركت تلك البحيرة اللامعة الراكدة. .ورأى الناس على المسرح كل احقاد الإنسانية ونفاقها وتناقضها. .يكفي ان الناس يطالبون بالحرية. .فإذا اعطيت لهم اخافتهم وأظهرت مقدار ضعفهم فيطالبون بالقيود. .فبطل المسرحية. .حيوان متوحش. .يتغدى على دماء البشر. .ثم يصبح ملكا يقتل كل يوم الف مواطن. .ثم يهرب فى النهاية إلى أحد الكهوف وفي احلامه يرى اشباح ضحاياه. .ويصرخ. .ثم يطلب من الموتى ان يقيدوه. .ثم يصبح:      " انا الذي املك الحريات كلها. .أريد ان اكون عبدا لكل الناس".

   وهناك من يرى ان مسرحية البير كامو " كاليجولا" تعتبر هي الاعلان الرسمى لمسرح العبث. .ومسرحية كامو لا تختلف كثيرا عن مسرحية ألفريد جاري..فبطلها أيضا امبراطور متوحش افقده موت اخته صوابه وجعله يشعر أن الحياة لم تعد ترضيه. . فبدات تستبد به الرغبة في الحصول على أشياء مستحيلة. .وقد اختفى ثلاثة أيام. .وهو يجرى محاولا الحصول على القمر. .وحين طالبه من حوله بان يعاملهم بالمنطق. .أخد يعدم كل شيء ويحطم كل شيء ويحتقر كل من حوله. .فقد كان ذلك في رأيه هو المنطق الوحيد. . ولكنه فى نفس الوقت كان يشعر بالرعب والفزع. .فزاد فى إطلاق الحرية لنفسه محاولا تحطيم كل من حوله. .وقد يكون ذلك مجرد صورة أخرى لمحاولته تدمير نفسه. .وقد أصدر حكمه على نفسه في النهاية واعلن انه يستحق الموت. .

   وقد كتب كامو هذه المسرحية سنة 1938 مثاثرا بمأساة الفكر الأوروبي في ذلك الوقت. .وبموجة التشاؤم التي رافقت الوجودية. .تحت ثاثير الارهاب والعنف الذي اجتاح العالم مثمثلا في النازية والفاشية. .

  وهناك من يعتقد أن أعمال (كارل ياسبرز) ونيتشه وبعض الفلاسفة  الوجوديين الآخرين تعتبر اول الإشارات إلى أدب اللامعقول. . أما كولن ولسون. . فهو  يرى أن (صامويل بيكيت)، وهو أبرز كتاب مسرح العبث في فرنسا حاليا، ما هو إلا مزيج من اليوت و فرانز كافكا مع قليل من جيمس جويس. 

  ومهما اختلف النقاد عن العمل الأول الذي يعتبر انطلاقة لهذا النوع من الأدب. . فإن الذي لا شك فيه هو أن سورين  كيركجور (1855-1813 ) هو المحرك الأول لفكرة اللامعقول نفسها، ،فهو الذي أثبت فلسفيا لا منطقية الوجود. . في هذه الجملة " كلما زاد فكري تناقص وجودي ،، وكلما زاد وجودي تناقص فكري"  وهو بذلك لم يقض على الكوجيتو الديكارتي فحسب، ، وإنما أعلن أيضا عدم إمكانية تعقل الوجود، ، فإن أي تفكير منتظم نحاول به إدراك الوجود فإنه يقضي على الوجود ذاته، فليس للإنسان أن يتجه للوجود طبقا لقوانين الفكر، ، بل عليه أن يتخلص من هذه القوانين لكي يقترب من الوجود ويتعمقه،، فإذا ما أدركنا ما في هذا العالم من أشياء غريبة متناقضة، ، فليس للعقل أن يتخلص من هذه التناقضات ويتعقل الوجود، ، فإن الوجود لا عقلي وبالتالي فإنه على الفكر أن يكون لا عقليا، ، وقد ظهرت هذه الفكرة عند كركيجار كرد فعل على فلسفة هيجل التي أغرقت العالم في ذلك الوقت، ، وقد كانت هذه الفكرة مغدية فيما بعد لمدارس اللامعقول التي تحاول تعميق مفهوم الوجود بواسطة إخضاع العقل لقوانين الوجود وليس إخضاع الوجود لقوانين العقل، ،

  بعد هذه المقدمة البسيطة عن أدب اللامعقول، ،نستطيع أن نقسم الاتجاهات الأدبية بعد الحرب العالمية الأولى، ، حسب التقسيم الذي وضعه يوسف الشاروني على أساس العلاقة بين الشكل و المضمون. 

الاتجاه الأول: اتجاه ينتمي بأسلوبه إلى أدب اللامعقول ولكنه ذو هدف معقول، فهو بالرغم مما يبدو عليه من فوضي تعبيرية لا يزال فنا هادفا معلنا انه يحطم كي يبني عالما أفضل، ، وتمثل المدرسة السرياليةهذا الاتجاه،، فلا معقولية الشكل في المدرسة السريالية لا تتضمن الإيمان بلا معقولية الوجود، ، وليس أدل على ذلك من أنها تستلهم من ماركس و فرويد، ، وهما أبعد ما يكونا عن الإيمان بلا معقولية الوجود، ، فماركس أراد إبعاد دور الصدفة في تطور التاريخ و إثبات حتميته، ، أي محاولة تصقيل التاريخ،، وفرويد أراد تعقيل الحياة النفسية للإنسان وإرجاع جميع أفعاله اللامعقولة إلى أسباب معقولة وخبرات سابقة مختزنة في أعماق اللاوعي. 

أما الإتجاه الثاني: فقد كان اللامعقول يشمل الوجود نفسه ولكنهم عبروا عن هذه اللامعقولية والعبثية في شكل معقول، ، كما هو الحال عند كامو و سارتر وبقية  الوجوديين  الذين بنوا أعمالهم على أساس  عبثية الحياه ولا جدواها، ،  وانعدام القيم واندحار الإنسانية. 

   ويقول الدكتور نعيم عطية في هذا الخصوص: "انهم يقدمون فكرتهم عن لا منطقية الوضع الإنساني في شكل منطقي على غاية من الفطنة وقوة البناء. ...بينما كتاب مسرح اللامعقول يحاولون التعبير عن احساسهم بلامنطقية الوضع الإنساني عن طريق التخلي عن التدابير العقلية والنقد الجدي فيأتي الشكل عندهم على قدر لا يستهان به من عدم المنطقية". 

   وقد ظهر هذا الاتجاه الثاني أثناء الحرب العالمية الثانية. .بينما الاتجاه الثالث قد ظهر في أعقاب هذه الحرب وهو اتجاه ينتمي في الشكل والمضمون الى فلسفة واحدة. .فقد اخدوا عن السرياليين تمردهم الاجتماعي وتحطيمهم للشكل. .واخدوا عن الوجوديين تمردهم واعلانهم عبث الوجود. يقول يوسف الشاروني:" يقوم اتجاه اللامعقول على أساس عدم وجود نظام في هذا العالم. .ولا يمكن ان يكون الفن الا صورة من هذا العالم لأنه يعكسه ويمثله. .أى أن يكون بلا شكل. .ولما كان الشكل هو المضمون والمضمون هو الشكل، ، فلا يمكن ان يكون الفن بلا شكل الا اذا الغي الموضوع والحدث والعقدة والشخصيات المنتظمة". .ومن هنا نشأ ادب اللامعقول المتمثل في القصة والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى. .وسوف يقتصر حديثنا على المسرح باعتباره أكثر هذه الفنون التصاقا بالانسان وأكثرها قدرة على التعبير عن الطبيعة البشرية التي تحاول جاهدة ان تعقد اتفاقا بين رغبتها في الوصول الى اللامتناهي وبين لامعقولية الوجود. 

   " لا علامة على الحياة في أي مكان. تقول بخ لا صعوبة في ذلك. الخيال لم يمت بعد. نعم. مات. حسبنا الخيال مات. تخيل: جزر. مياه. زرقة. خضرة. لمحة واحدة واختفت لا نهائيا. احذف. حتى كل شيء ابيض وسط البياض".

   هذا مقطع من قصة قصيرة لصمويل بيكيت بعنوان" الخيال مات، تخيل". .وهذه الكلمات المتناثرة. .والتي تدل بوضوح على مدى التمزق الذي يعاني منه الكاتب في سبيل ربط هذه الكلمات ومحاولة إيصال الفكرة للقارئ. .تدل بوضوح على ازمة اللغة عند كتاب مسرح العبث جميعا. .هذه المشكلة التي زادت من تعميق مفهوم الغربة عندهم. .فهم جميعا يكتبون بالفرنسية. .والتي هي ليست لغتهم الأصلية. .- يوجين يونيسكو من رومانيا- بيكيت من ايرلندا- اداموف روسي ارمني- ارابال اسباني بوتساني ايطالي- وهناك عدد آخر غير هؤلاء. .ينتمون الى جنسيات مختلفة. .وقد كان نتيجة لذلك أن حاول كل منهم أن يبحث له عن لغة جديدة يعبر بها عن فكرته بدل اللغة التقليدية. .فاللغة العادية. .تفتقد الى بعض الأشياء الاتصالية التي بواسطتها يمكن صياغة الأفكار العميقة المشوشة وغير الواضحة. .فارادوا خلق هذه اللغة الجديدة ليحفروا بها تقبا ولو صغيرا في جدار الصمت والغربة الذي يحيط بهم. .وقد اعلن الفنان الفرنسي (انتوني ارثر- 1948-1896) طبيعية هذه اللغة الجديدة (الامر يتعلق باستبدال الكلام المنطوق بكلام ذي طابع مختلف. ..كلام جسماني محسوس ويوحي بظهور كائن من قماش وخشب. .لا يجيب عن شيء. .ويثير القلق بطبيعته ويستطيع أن يعيد للمسرح نغمته من ذلك الخوف الميتافيزيقي العظيم الذي كان اساسا للمسرح القديم كله)..

   وتقول الدكتورة نوال أسعد في مقال لها بمجلة "الفنون"..إن جان جينيه استطاع أن يحقق في أعماله المسرحية ذلك المسرح الميتافيزيقي الذي حلم به ارتو، ، وذلك بأنه أعاد إلى المسرح طابع المراسم والشعائر والاحتفالات الدينية ذات الطقوس الغريبة، ،  (ويعيده إلى ذلك المكان الغريب. . حيث كل الحريات ممكنة، ، كما يقول جينيه نفسه)،، والغربة في مسرح اللامعقول يمكن ملاحظتها من مشاهدة أي مسرحية منها، ، فالاشخاص التائهون، ، والذين يتمزقون على خشبة المسرح، ، والشخصيات الهلامية التي لا لون لها، ، وذلك الصمت الذي يغلف أغلبها، ،  ورائحة الموت و العدم تعبق بها حتى مقاعد المشاهدين، ، ويرى أنيس منصور أن ( المشكلة هي الغربة والغرابة و الاستغراب في العالم كله، ،وإحساس الإنسان بأنه وحده، ، يلقى مصيره وحده، ، كل شيء يحيط به يتهدده، ، وان الإنسان جزيرة محاطة بالموت والدمار من كل ناحية وان الناس ليسوا إلا أفرادا غرقى، ، ولا يمكن أن يوصف الناس الغرق في بحر واحد، ،أنهم مجتمع لمجرد انهم ضحية بحر واحد، ، ولكن هذا البحر وهو الشعور بالضياع قد باعد بينهم. فليس بينهم كلام، ، وليست بينهم لغة، ، وأصبحت اللغة عاجزة عن أن تبوح بشيء، ، فلا  يوجد شيء أقسى من أن يجد الإنسان نفسه واقفا في وجه الدرع وحده، ، يصارع الأمواج المتلاطمة دون أمل في أن ينقده انسان ما أو أن ينتظره انسان ما إذا ما استطاع النجاة، ، والحياة عند بيكيت تعتبر امتدادا للموت ،، والموت امتداد للحياة، ، ويختلط عنده الشعور بالموت والغربة " أننا نخرج من ظلمات الرحم. . إلى ظلمات القبر، ، مارين بظلمات الحياة، ، وحدنا  دائما". صامويل بيكيت، ، من أصل أيرلندي، ، ولد سنة 1906. وحصل على جائزة نوبل سنة 1969 على التغيير الذي أحدثه في الأشكال الفنية للقصة والمسرحية، ، وقد درس اللغة الفرنسية  وأصبح مدرسا لها، ، ثم هجر الانجليزية ليكتب بالفرنسية. ويقول هو عن نفسه بأنه خليفة فرانز كافكا و جيمس جويس، ، وتعد أعماله كلها تعبيرا عن السأم  والملل الذي يشعر به الإنسان في هذه الحياة الخالية من المعنى، ، وأبطاله كلهم، ، نجدهم  يبحثون عن هذا الشئ الذي يقف وراء الإنسان ويحركه، ، ومن استغراق بيكيت في التعبير عن السأم والملل يقول كولن ولسون:" لقد أوصل الاحتجاج على السأم البشري والشقاء إلى درجة أن هدفه من ذلك ضاع في خضمها ،، وهدفه طبعا هو ابلاغ الآخرين بفحوى ذلك الاحتجاج".

والسبب الذي جعل بيكيت يغرق في السأم حتى يفقد صوته الذي يوصل به اهتزازات أعماقه إلى الناس، هو شعوره بعدم القدرة على التفاهم مع الآخرين، فهو بعيش في كهف مظلم،، يتحدث إلى نفسه، ، باحثا ومنقبا عن لغة يتحدث معها إلى الآخرين الغارقين في أحلامهم والذين يبدو أنهم على استعداد لسماع صوته وقد واجهته في بداية حياته حادثة هي سبب أزمته النفسية، ، وهي السبب في الارتباك العقلي الذي يعاني منه، ، فقد كان يمشي ذات ليلة في أحد شوارع باريس المظلمة- إذ برز له شبح من أعماق زقاق ضيق معتم، ، وطعنه في بطنه بسكين، ، وتمزقت احدى رئتيه،، وبقى مدة في المستشفى، ، وحين خرج، ، ذهب فورا إلى السجن لكي يرى الشخص الذي طعنه، ، وسأله عن السبب الذي دعاه إلى الاعتداء عليه، ، فكان جواب المجرم: لا أعرف! وقد كان ذلك صدمة عنيفة، ، جعلت السؤال معلقا في دهنه سنوات طويلة، ، وترددت أصداء هذه الكلمات في أكثر مسرحيات بيكيت بعد ذلك. 

وتعتبر مسرحية (في انتظار جودو) هي السبب المباشر وراء شهرة بيكيت،، وأن كولن  ويلسون يرى أن السبب في ذلك يرجع الى ان للشحاذين ميزة المهرجين الكوميديين العاديين، ، ولكن الواقع أن (في انتظار جودو) نجحت لانها عرت لطبيعة الإنسانية تماما، ، و أظهرت  الشحاذين  المشردين الذين ينتظرون كل يوم من الصباح حتى المساء شخصا اسمه جودو، ،  اظهرتهما كرمز للبشرية الكسيحة العرجاء، ،

انتظارها لجودو. .يمثل تعلق الانسان المهزوم بخيط رفيع يتبع جسدا من الامل. .فهم ينتظرون شخصا لا يعرفونه وغير متأكدين من قدومه ولا من موعد قدومه . .وهو يمثل الانسان الكامل الذي سينقد البشرية من الامها وعذابها المتواصل. .وكلما اتى المساء يقول أحد الشاحذين للاخر بعد أن ييأس من عدم قدومه هذا اليوم (هيابنا)..ثم لا يتحركان. .فيدل ذلك على اللامعنى الموجود في عملهم وعلى أن، انتظارهم لجودو ليس الا قبيل السام ويدافع قتل الوقت. 

   والواقع أن لكولن ولسن رأيا آخر يمكن اخده ضد بيكيت. .وهو انه ما كان لبيكيت أن ينجح لو لم يمزج مسرحية الناجحة (في انتظار جودو) بقليل من التهريج. .فقد كانت سوداوية مليئة بالمرارة والتعاسة. وقد فعل اميل زولا قبله ذلك حين مزج رواياته بالجنس وذلك لتقليل حدة المعاني التي تنغرز في القلب وتغوص إلى الاعماق. .و ولسن يرى ان صفحات مؤلفات بيكيت كلها متشابهة. .و وجهة نظره في الحياة تلوح دائما هي هي لم تتطور ولم تتغير. .ولو ثم دمار جميع مؤلفاته في كارثة ما ولم يبق منها الا مؤلف واحد فان ذلك لن يغير من الامر شيئا. .فكل واحد من مؤلفاته يعتبر بيكيت كله. 

   وفي عام 1957 قدم بيكيت مسرحية بعنوان " نهاية اللعبة" وفيها نجد أحد الأشخاص يروى الحكاية التاليه: "يذهب رجل إلى الخياط من اجل سروال. .ولكن الخياط يمعن فى الابطاء والتسويف. .فيقول اولا انه افسد مقعد السروال. .ثم يقول ان هناك خطأ في مكان آخر. .واخير يفقد الرجل أعصابه ويصرخ قائلا: "ولكن ياسيدي العزيز. .انظر الى العالم. .ثم انظر الى السروال الذي اصنعه لك".وهنا تظهر بوضوح السخرية من العالم. .وعدم الثقة فيه وأيضا لامعقوليته. .ويبدو العبث واضحا من خلال كلمات الخياط. .الذي يعتقد بثقة تامة. .ان سرواله أكثر اتقانا من العالم. واذا كان كولون ولسون يرى ان كل مجلدات بيكيت يمكن ان نعبر عنها بهذه الجملة (ترى ماذا نفعل هنا؟)..فإن تاريخ البشرية بأسره. .ومسيرة الفكر الانساني. .منذ عرف كيف يصوغ الجمل الاستفهامية. .واصداء هذا السؤال لا تزال تتردد فى كل مكان. .من المختبرات العلمية الى ارصفة العالم الضبابية. .

   الشعور بحضور الموت. .وبابديته وخلوده. .يعتبر اهم ما يميز مسرح (يوجين يونيسكو)..ففي مسرحيته (الملك يموت) نجد الحوار التالي:

ماري: ما دام الموت لم يأت، انت هنا. .وعندما يأتي لن تكون هنا. لن تقابله. لن تراه. مرجريت: أكاذيب الحياة. .نعرفها. .لقد كان هناك دائما. ..حاضرا منذ اليوم الأول. .منذ النبت الأول. .انه النبت الذي ينمو. .والوردة التي تتفتح. .والثمرة الوحيدة.

نعم. .فالموت عند يونيسكو هو الحي الوحيد الذي لا يموت. .والذي يتربص بالبشرية عند كل خطوة تخطوها الى الامام. .ويمتاز مسرحه أيضا. .بذلك الجو من تأنيب الضمير وسيطرة الخطيئة الأولى عليه. .فها هو العجوز في مسرحية الكراسي يتحدث عن تجربة مر بها "تركت أمي وحيدة في حفرة. .كانت تناديني و تتاوه. .وتقول في غير قوة. .يابني الحبيب لا تدعني أموت وحيدة" ولكنه تركها تموت وحيدة. .لقد ذهب إلى المرقص. ..وحين عاد وجد الموت قد سبقه اليها. ..وبحث عنها. .ولم يجدها. .فهي قد انتهت. .ويبقى  شعوره بأنه هو السبب في قتل أمه وحيدة. وترى 

هنا الشعور بالغربة قويا وحادا. .فهو يؤنبه ضميره ليس لانه ترك أمه تموت. .فهي لا بد ميته. .لكنه يشعر بالذنب لانه تركها تموت وحيدة. .هذا الشعور هو الذي يسيطر عليه ويقلقه.

  * ولد يوجين يونيسكو عام 1912من أم فرنسية وأب روماني. .وقد قضى طفولته في فرنسا حصل على منحة لاعداد رسالة للدكتوراه في فرنسا كان موضوعها،، "الخطيئة والموت في الادب الفرنسي منذ بودلير"ونلاحظ ان هذين العاملين بالذات الخطيئة والموت نراهما في كل اعماله المسرحية مرتبطا بذلك "الحنين المتاجج" على الفرار والهروب من الموت ومن الشعور بالعذاب والالم نتيجه الشعور بالذنب تجاه العالم والاشياء. 

   * "عندما يكون الجو باردا فهو ليس حارا فهذا لانه بارد" ان أي انسان يتعلق بهذه الجملة المتناقضة على خشبة المسرح. .ووجهه ممتلىء بالاقتناع والثقة من قبل. .غير انه يعاوده قلق قديم وخوف متاصل. .يجعله يخشى ان يصبح هذا المنزل قبرا له. .فالمقاعد آخذة في الغوص. .والممرات معتمة. ..والغبار والوحل يغزو الادراج. .والعفن يرسم على الجدران وجوها مخيفة مفزعة. .وجان. .في الاحلام الثلاثة. .يحاول ان يصل الى الحقيقة أو المطلق. .ولكنه في نهاية كل فصل كغيره يصل إلى طريق مسدود. .وهذا الطريق المسدود هو الذي يجعل يونيسكو ينطوي على نفسه. .وحيدا غريبا لا أمل له في السير أبعد من ذلك خطوة واحدة. ..وقد تعرض هو أيضا لحادثه. .ولان كانت بسيطة الا انها اثرث في حياته واثرث في رؤياه الخاصة للاشباء. .فهو لايستطيع ان ينسى ذلك اليوم الذي شاهد فيه شابا قويا، ، يهجم على رجل عجوز متهالك ويوسعه ضربا و لكما،،ثم يلقي به على الأرض ويشرع في ضربه برجيله،، لقد كانت هذه الحادثة بمثابة المؤشر الذي يشير إلى تخلخل الإنسانية وتناقضها،، لماذا، ، لماذا هذه الوحشية وهذه القسوة، ، لماذا هذا التناقض في النفس البشرية، ، الإنسان يكافح من أجل البقاء، ، فإذا به يتخذ الحرب وسيلة لهذا الكفاح، ، في غمرة بحثه عن وسيلة تضمن له بقاءه،، نسى الهدف الأصلي، ، وأصبح القتل هو السبيل إلى المحافظة على الحياة، ، فلماذا لا يكون الإنسان هكذا..؟.. ويظل التساؤل عالقا بذهنه، ،  ويكبر وينمو وتتشعب منه أسئلة أخرى، ، غير أن جوابه في قاتل بلا أجر " انا لم أعد ادري " يكون هو الجواب الوحيد الممكن، ،، ويكون التساؤل بذلك طريقا مسدودا مثل بقية الطرق. 

  * وكل الذي يذكره يونيسكو عن طفولته في باريس، ، هو صور من الرعب والفزع والخوف من تلك الطرق المظلمة والازقة الضيقة المعتمة، ، والمجاري ذات الرائحة النتنة،، والناس الذين يسيرون دون أصوات، ، يتحركون بعفوية وعشوائية،، واضعين أيديهم في جيوبهم، ، ويخفون عيونهم تحت قبعاتهم، ، أشباح هلامية تعوم فوق سطح الحياة، ، وقد صور هذه الشخصيات فيما بعد في مسرحيته (الكراسي)،، حيث جعل هذه الشخصيات تتحرك على المسرح دون أن ترى، أي أنها تعيش على هامش الحياة، ولا تأثير لها في الحياة، ، وقد بعث مخرج مسرحية الكراسي إلى يونسكو يسأله عما يقصده بالضبط من ظهور عجوزين على خشبة المسرح طول ثلاث ساعات وليس معهما إلا عشرات الكراسي الخالية على المسرح، ، ومفروض أن تبدو هذه الكراسي كما لو كانت مشغولة بالناس، ، وأن يتحرك البطلان بين الكراسي برفق وصعوبة حتى لا يصطدم بأحد الموجودين، ، وكان رد يونسكو " أن البطلين ليسا في الدرجة الأولى من الاهمية، ، وإنما المهم هو الكراسي الخالية، ، المهم هو يكون هناك فراغ على المسرح، ، ان يكون هناك عدم أم يكون هناك ناس لا تراهم ولا تسمعهم،، والمفروض أن نراهم ونسمعهم،،إنني أردت بهذه الكراسي أن اجعلها صورة للعدم،، وللوهم،، ولليأس، ، لفشل الإنسان أمام الإنسان،، أردت أن أبين أن الاتصال بين الناس صعب، ، فلا يزال الناس عقبة أمامنا، ، ولا يزال توصيل المعاني والأفكار للناس شيئا صعبا، ،" فالكراسي هي الأهم ".فطوال المسرحية يتحدث العجوز الى الكراسي الفارغة. ..ويطمئن الجالسين فيها الى أنه سيأتي خطيب ليشرح لهم نظريته في الحياة. .وبعد ان يتم حضور الجميع. .ينتحر العجوز وزوجته،، بعد ان يدخل الخطيب. .الذي يكون ابكم واصم. .ليشرح نظرية العجوز. .فيونيسكو يركز هنا على ان الاتصال صعب ومستحيل فكل الذي استطاع ان يفعله. .هو كتابة يضعه حروف وأرقام ثم خرج. .وهذه في الواقع هي مشكلة كتاب مسرح العبث جميعا. .فهم يعيشون في جزيرة محاطة بالموت. ..وكل الجسور التي تصلهم بالناس قد فجرت فيعيشون معزولين عن الناس. .في عالم جحيمي. .يعانون من الوحدة والالم والسام وقد كتب يونسكو كثيرا من المسرحيات مثل- المغنية الصلعاء- والدرس- والكراسي- واميديه-والمستاجر الجديد- قاتل بلا اجر- الخرتيت-وكلها تنحدث عن الموت والغربة. وكلها تقف في منتصف الطريق حيث ان كل الطرق مسدودة- ولا أمل في الحصول على أي معنى للحياة. 

"قل لي ايها الشاعر. .ما الذي تفعله هذه الدنيا؟ 

                                           أنني أحبها. 

وهذه الاشياء الكريهة الشريرة. .كيف تحتملها وكيف تقبلها؟ 

                                                       أنني أحبها

وهذه الاشياء التي لا رسم لها ولا معنى لها كيف تختار اسماءها ومدلولاتها؟ 

                                                                         أنني أحبها

وهذه النجوم البعيدة الهائلة وهذه القوى الصامتة المخيفة في هذا الكون كيف تعرف طريقها اليك؟ 

                                                                         أنني أحبها. "

   من هذا المنطلق. ..كان الشاعر الألماني"ريلكة" يعالج شعوره بالغربة وبالملل. .وشعوره بأنه يوجد في عالم لا يفهمه ولا يستطيع ان يتعامل معه. .فبواسطة الحب وحده. .يستطيع الانسان ان يبنى عشرات الجسور التي تستطيع ان تنقله الى عالم الناس. .الحب هو الذي يجعله يجد ذلك الطريق المفقود نحو النور والضياء. .ونحو رؤية الأشياء بوضوح. .وحب شهريار لشهرزاد هو الذي مكنه من ان يستمع اليها طوال الف ليلة وليلة. .فلو لم يكن يشعر بالحب نحوها لقتلها منذ الليلة الثانية، ، أو على الأقل الليلة الأولى بعد الألف،، ولكنه لم يفعل ذلك، لأنه لم يكن يشعر بالغربة أو الملل منها- حتى كان ذلك اليوم الذي وجدها فيه في أحضان خادمه. ..اكتشف انها دخلت عالما آخر. .مستغلق عليه...لن يستطيع ان يفهمها بعد ذلك مطلقا. .فقتلها. وهو بذلك اراد ان يدمر عالما لم يعد قادرا على فهمه. .عالما غريبا عليه. ..وبطل البرتو مورافيا في روايته- السام- يعانى من هذه المشكلة منذ البداية. .انه يحب   -سيسليا-وقد فعل المستحيل لكي يشعر بانه قريب منها وانها ليست غريبة عليه بالرغم من انه يمتلكها تماما. ويستطيع ان ينالها متى يشاء. .ولقد كانت هي متغلغلة في اعماقه لدرجة كبيرة. .فحين يسير في أي طريق زراعي يتخيل ان تلك الهضاب الخضراء المزهرة التي أمامه ما هي إلا نهود سيسليا،، وأن الطريق الاسود الطويل الذي يسير فيه. .هو السرداب الدافىء. .الذي يوصل إلى جنة سيسليا والتي لم يصلها مطلقا. .لقد كانت متغلغلة فيه حتى النخاع. ومع ذلك فقد كان يشعر بانها هي بعيدة عنه ومنفصلة عنه. .وانه لا يشعر بأنه يمتلكها. .ولولا حبه لها لقتلها. .ولكنه فعل المستحيل لكي يجعلها تدخل عالمه هو المليء بالحب. .هددها. .واستعطفها واغراها. .حتى غطى كل جزء من جسدها بالليرات الإيطالية. .دون فائدة. فقد كانت لاتشعر بالحب نحوه. .وتشعر بانه عالم غريب قائم بذاته لا سبيل للدخول اليه ورغم ان الحب اذا طال امده يصبح شيئا عاديا مثل بقية الاشياء، غير ان المرء لا يشعر معه بالسام. .وذلك كما يقول انيس منصور "انه كلمعان النجوم. .متكرر. .كدقات القلب المتكررة. .تنبع أكثر العواطف اختلافا. .وأكثر العواطف التهايا. .وأكثر العواطف قدرة على انتاج اجمل واعمق وابقى ما صنع الانسان" غير ان الحب هو الشيء الوحيد الذي تخلو منه حياة أدباء العبث. .فهم دائما يشعرون بانه ليس ثمة أى شيء يستحق الحب فالحب أيضا لا معنى له. .ولا وجود له. .وها هو " ارثر اداموف"..يبكي على نفسه الغارقة في الوحدة والصمت وسنه لم يتجاوز السادسة عشرة بعد" ماذا هناك في الدنيا. .انا فقط. .ولكن من انا؟ ..إن في داخلي تمزقا إنني منقسم على نفسي. .انني منفصل. .انني مفصول. .ولكن من أي شيء انا منفصل. .من أي شيء انا منعزل. .لا أعرف ولكني منعزل".وربما كان سبب شعوره بالعزلة هو عدم استقراره الدائم. .قد ولد في القوقاز عام 1908..ووالده كان ثريا. .ولكنه بالرغم من ذلك كان يشعر بالوحدة والفراغ. .وقد تنقل من روسيا الى النمسا والمانيا. .ثم أستقر أخيرا في فرنسا. .وقد ساعد على تعميق شعوره بوحدة الانسان. .وعزلته واغترابه. .حادثة مهمة. .اثرت في حياته. .وهزته. .وأصبحت فيما بعد هي المنبع الذي يستقي منه اعماله المسرحية. .فقد كان جالسا في أحد المقاهي في باريس. .ورأى فتاتين جميلتين. ..يتفجر الشباب والحيوية من خطواتهما الرشيقة على الطريق. .ومن ملابسهما الزاهية البهيجة. ..وكانتا ترددان معا بصوت لطيف مرتفع" أغمضت عيني. .فبدا الوجود رائعا"..

وقد مرتا الى جوار رجل عجوز شحاذ أعمى. .يقف على رصيف متاكل ويسأل الناس. .دون ان يلفت اليه احد. .فقد كان الناس يرقبون الفتاتين. .وكان غناء الفتاتين يطغى على صوت الشحاذ الضعيف. .وقد تكتف الشعور بالعذاب والوحدة في هذه اللحظة عند اداموف" فاغمضت عينى. .وذبت وتلاشت غيبوبة جليلة".

   * ان التامل في حياة كتاب مسرح اللامعقول جميعا. .سيجد انه في حياة كل واحد منهم حكاية ما يرددها. .اثرث في حياته وقلبت نظام حياته الاجتماعي و جعلته يعيد النظر في مبادئه وفي القيم الموجودة في العالم. .أي تجعله يشك في كل شيء. .وقد حدث ذلك لبوتسائي أيضا. .الاديب الايطالي الذي ولد عام 1918..وهو يروي قصة حدثت أمام عينيه. .ولونت رؤياه للاشياء فيما بعد. .فقد رأى عصفورا جريحا. .ينتفض في فم قطعة صغيرة. .ثم رأى سيارة فخمة تدوس القطة ولكنها لا تموت. .وعندما نزلت صاحبة السيارة لتسلم على احدى صديقتها. .قتلت القطة. .أما العصفورة الجريحة...فقد طارت بجوار حائط متهدم. .هذا هو ملخص للحياة بأسرها. هذه الحادثة البسيطة. .توضح بجلاء. .التعقيد الموجود في حياة الإنسان، ، وأيضا التناقض الموجود في طبيعة البشرية، ، نحن يجب أن نعيش ولكي تعيش لابد أن تقتل، ، فكيف يمكن أن يكون الموت طريقا للحياة، ،؟،، ان هذا مستحيل، ، لأن أثناء محاولتنا الحفاظ على حياتنا، ، سنرتكب أخطاء يذهب ضحيتها الأبرياء، ، فهذه السيدة هبطت من السيارة لتسلم على صديقتها، ، دون أن تدرك إنه هناك عالما بأسره يتألم تحت عجلات سيارتها، ، والقطة أيضا لا تهتم  بالعصفورة الصغيرة، ،قدر اهتمامها بأنها تحصلت على غذائها،، والعصفورة أيضا، ، حين تواتيها الفرصة، ، فإنها ستنقض على أية دودة تصادفها، ، هذا هو قانون البقاء، ، وهذه هي الطبيعة، ، فالعالم كله موجود على فوهة بركان مستعد للانفجار في أية لحظة دون سابق إنذار، ، فالجميع مظلومون والجميع يشعرون بالذنب، ، الجميع يقتلون والجميع يخافون، ، كل واحد منهم يقف في زنزانة زجاجية صلبة، ، يرى الآخرين ولكنه لا يفهمهم،، غريب عنهم فهو وحده في زنزانته الصلدة ،، وقد يبدو الجنون هنا، ، هو الامل الأخير، ، والحل الوحيد الممكن للتخلص من هذه الجدران، ، ولتحطيم المسافة بين كل إنسان وآخر،، ولكن هاهو "جان" بطل الجوع والعطش ليوجين يونسكو، ، يقول " وا اسفاه،، وا اسفاه،، وا أسفاه،، الجنون لا يفيد، ، طالما لم يصبح ليلا كاملا، ، طالما لم يبتلع العقل" والحادثة التي وقعت للأديب الفرنسي جان كارديو المولود في سنة 1903،، قد تجاوزت حدود العقل فعلا وابتلعته، ، وهو لا يمل مطلقا من رواية هذه الحادثة، ، يقول، ، تصور لو أن شخصا مجهولا، ، دخل بيتك فجأة، ، فجأة، ، ووقف في وسط الحجرة ،، ونظر إليك ثم قال: مات،، ثم نظر إلى زوجتك وقال لها: مات، ، ثم نظر إلى ابنك وقال له: مات، ،، ثم أمسك بكلبتك الصغيرة، ، وألقى بها من النافذة، ، وتبعها هو أيضا منتحرا ،،!! قد تبدو هذه الحادثة اللامعقولة مجرد خرافة أو حلم، ، ولكن كارديو يقول إنها حدتث له فعلا، ، واكتشف فيما بعد أن هذا الرجل الذي تصرف بهذه الطريقة، ، هذا الرجل المجهول كان سائقا لأحد اللوريات، ،، اصطدم بسيارة كانت تركبها أسرته، ،، وقتلهم جميعا، ، وقد كان هذا التصرف اللامعقول هو التصرف الوحيد المعقول كرد فعل على تلك الحادثة اللامعقولة والتي ليس لها ما يبررها،،،حيث ذهب ضحية ذلك الحادث أسرة كاملة.

   وقد نقل كارديو، ، هذا المشهد في مسرحية له بعنوان" من هناك ". حيث تجد اسرة تتناول  عشاءها في هدوء، ، الأب والام والابن، ، حين يفتح الباب فجاءة ويدخل إنسان مجهول ضخم جدا، ، ويمسك الأب من عنقه ويرميه خارج النافذة، ، وحين تلقي الأم نظرة خارج النافذة تجدها مليئة بالجثث ملايين الجثث وبعد لحظات ينهض الأب ويعود فيدخل البيت، ،،وتسأله زوجته: من الذي قتلك؟ فيجيب الزوج: ليس إنسانا. 

وتسأله الزوجة:من انت؟ فيجيب الزوج: لست انسانا

وتسأله: ومن كنت؟ .

فيجيب: لا أحد! !!

   ها هو. .كاليجولا. .بطل كامو. .يصرخ في نهاية المسرحية. .معبرا عن فقدانه للحب "كل شىء يبدو معقدا للغاية. .ومع ذلك فهو في غاية البساطة. .لو انني حصلت على القمر. .ولو كان الحب كافيا لتغير كل شيء. .ولكن اين اروي هذا الظما. .واي قلب واي اله يحتمل ان يكون له عمق بحيرة"..وماساة جان جينيه تقترب من ماساة كاليجولا. .فهو أيضا لو حصل على الحب الكافي لما حدث له ما حدث. .ولما دخل السجن عشرات المرات بتهمة السرقة. .يقول في (مذكرات لص) عن بداية حياته " ولدت في التاسع عشر من ديسمبر عام 1910 في باريس ونشأت في ملجأ للايتام. .وحينما بلغت الحادية والعشرين من عمري اعطوني شهادة ميلاد. .كانت والدتي تدعى جابرييل جينيه وابي مجهول. .وعلمت انني ولدت في المنزل رقم 33 شارع اساسي. .وعندما ذهبت ابحث عن ذلك العنوان وجدت انه مجرد مستشفى للولادة". .اذا فهو قد دخل الدنيا لقيطا. .وعاش محروما من الحب غريبا وحيدا. .وقد عاش في فترة شبابه الاولى. .حياة القدارة والتشرد والانحراف. .لقد كان جواب افاق. .يتسكع على ارصفة العالم. .فزار معظم الدول الاوربية الغربية والشرقية. .ومارس الاجرام والسرقة والدعارة فى كل منها حتى طردته منها بعض الدول والاخرى منعته من الدخول اصلا. .وفي بولندا حاول تزوير اوراق البكنوت. .أما ألمانيا فلم ترق له،، لأنه احس بأنه لص يعيش بين امة من اللصوص،، فقد كانت اللصوصية عنده تمثل موقفا من الحياة، ، وفلسفة تعبر عن رفضه للمجتمع وأخلاقياته التقليدية، ، لذلك لم يجد اية متعة في أن يعيش بين لصوص يحترفون السرقة..وقد بدا حياته الادبية فى السجون. .وكتب الشعر. .اما روايته (مادون الازهار) و (معجزة الوردة) و (يوميات لص) فقد كتبها كلها في سجون فرنسا المختلفة. .وفى عام 1948 حكم عليه بالاشغال الشاقة المؤبدة. .في عشر جرائم من جرائم السرقة. .لولا أن تدخل مجموعة من الأدباء الكبار من بينهم سارتر وجان كوكتو. .وقد اختلف النقاد في جان جينيه. .قمتهم من يعتبره مجرد بالوعة تجمعت فيها نفايات وقذارات المجتمع. .ويفوح ادبه برائحة نتنه. .اما سارتر. .فقد ألف عنه كتابا من 700 صفحة اسماه (جان جينيه قديس وشهيد) حاول ان يثبت فيه قداسة الافكار التى ينادي بها جان جينيه. .واعتبره المثال النموذجي للامنتمى الوجودي. .فهو لقيط. .ومجرم. .وقد اختار بنفسه وبكامل وعيه ان يكون لصا شريرا وشاذا جنسيا. .فهو ليس فريسة للظروف أو الاقدار. .أو أسير الجبر والضرورة. .فهو قرر ان يكون لصا حين رأى المجتمع ينظر إليه بهذه الطريقة. .في سنه العاشرة حيث ادخلوه الاصلاحية بتهمة السرقة. .فقد قرر حينذاك ان يرفض المجتمع كما رفضه. .

   وهكذا نجد ان جان جينية قد نشأ في الغربة ولد من أب مجهول. .وأم تخلصت منه منذ اليوم الأول. .ثم عاش في عالم اللصوص والمشردين الخارجين عن القانون. .الذين لا ينتمون الى اي طبقة من طبقات المجتمع. .فهم المنبوذون. .ماواهم الحواري الموحلة. .والازقة الضيقة. .وحجرات العاهرات المعتمة. .حيث يخرجون منها مع الفجر. .ليبداوا رحلة التسكع الطويلة عبر أرصفة باريس الرمادية. .فهو هارب من نفسه. .غارق في الجريمة. .ممتلىء بالحقد على المجتمع. .وقد اعترف لسارتر بأنه احترف السرقة وهو في الرابعة من عمره" هجرنى والدي فهويت السرقة واستبدني حب الجريمة رافضا بذلك العالم الذي رفضني. ."..وقد وصف نفسه في يوميات لص بأنه "لص وغشاش وخائن و لوطي وسادي ومازوكي وقادر على القتل"..ولاشك ان هذه الاشياء كلها. .تجمعت لديه وتكشفت نتيجة شعوره بالغربة والوحدة. .ونتيجة للفراغ الذي خلقه خلو قلبه من الحب فقد كان طفلا صغيرا بريئا. .وعاش مهزوما. .هاربا من نفسه غارقا في الشرور. .محطما نفسه باغراق نفسه في السكر والجنس. .وقضاء ليالي الشتاء في الزنازين المعتمة الباردة. .ونجد عنصر الهروب من الواقع. .في أغلب مسرحياته التي نشرها بعد ذلك. .فنجد ان عنصر التزييف هو الذي يسيطر على أغلب شخصيات مسرحياته المكونة من الصعاليك والمشردين والمساجين والخدم والمطاردين فهذه هي الشخصيات التي خبرها ودرسها دراسة وافية ..ففي مسرحية الخادمتان. .نرى خادمة تعاون سيدتها في ارتداء ملابسها. .ثم فجأة نجد الخادمة تصفع سيدتها. .وسرعان ما نكتشف اننا امام لعبة تمثل امامنا. .فهما مجرد خادمتين تمثلان دور الخادمة والسيدة في غياب سيدتها. .وتحاول الخادمة ان تنتقم من سيدتها في صورة الخادمة الاخرى. .فهما خادمتان تكرهان سيدتهما لأنها جميلة وثرية ويحبانها لنفس الصفات. .ويدسان لها السم. .ولكنها لا تشربه. .فتقتل احداهما نفسها. .محاولة قتل السيدة التي تعتقد انها موجودة في اعماقها وغير منفصلة عنها..

   وكذلك في مسرحية السود. .نجد مجموعة من السود. .يقومون بطقوس دينية غريبة. .ثم يقتلون سيدة بيضاء. .ولكننا أيضا نكتشف ان ذلك ليس حقيقيا. .وانه مجرد تمثيل. .فحين ينزع كل منهم اقنعته نكتشف ان الجميع من اصل واحد. .والجميع في القضية يتبادلون دور القضاة والمتهمين الجناة والضحايا. .فهو يريد ان يواصل فكرته للعالم عن الضياع. .وان كل انسان قد نسى دوره الذي عليه ان يمثله في الحياة. .فاختلط الامر على الجميع. .ولم يعد احد يعرف من هو على حق. .ومن هو على خطأ. .بل لم يعد احد يعرف حدود الحق وحدود الخطأ. .فالكل ضائع يبحث عن نفسه وسط مجموعة هائلة من الادوار المختلفة. .يمثلها جميعها. .حتى يكتشف ذات مرة بالصدفة دوره الحقيقي الذي عليه ان يمثله،،

   اما (مدام ايرما) وهي صاحبة بيت دعارة في مسرحية (الشرفة)..فهي تطفىء النور في نهاية المسرحية وتخاطب الجمهور. .تنزع عنهم ثيابهم قطعة قطعة. .قائلة "الان انصرفوا الى بيوتكم ايها السادة. .نعم انا ادير بيت دعارة. .وانتم أيضا تديرون بيوت دعارة. والفرق الوحيد بينى وبينكم اني اعرف عن نفسي هذه الحقيقة. .واعترف بها ولا اخجل منها اما انتم. .فبعضكم لا يعرف انه يعيش في بيت دعارة ويتوهم أنه يعيش في جنة الفضائل وبعضكم الاخر يعرف هذه الحقيقة ولكنه لا يعترف بها أما خجلا واما نفاقا وادعاء. ."  فهي تعترف بانها تعيش حياة قذرة. .وتعترف بانها تحيا حياة مزيفة. .اما هم فانهم يحيون الزيف مرتين. .حياتهم مزيفة. .تجاه الناس وتجاه انفسهم. .لذلك كانت هي اقرب الى الفضيلة منهم. .فجان جينيه يرى ان اختيار الشر بالارادة الواعية والمعرفة التامة بانه شر. .هو الطريق الوحيد للتخلص من هذا الشر والطريق الى التطهر منه.وعلى هذا من ان مسرحية (رقابة مشددة) تعتبر اقرب مسرحياته الى الواقعية. .الا انه يحاول منذ بداية المسرحية ان يشعر المشاهد بانه قادم لمشاهدة حلم وليس مسرحية حقيقية. .فالملابس الصوفية الخشنة والديكورات ذات الالوان الصارخة. .ومحاولة الممثلين ان تكون حركاتهم ثقيلة بطيئة او سريعة خاطفة بطريقة غير مفهومة. .ويرفعون نبرات أصواتهم حتى تكاد تصم الاذان. .وخطواتهم خفيفة غير مسموعة. .وفى هذا الجو الاسطوري الحالم. .وبين جدران زنزانة عتمه ذات حجارة بارزة..تتشكل خيوط صراع شديد التعقيد بين ثلاث شخصيات مختلفة. .اخضر العينين. .مجرم دفعته الظروف الى القتل "الذي يدفعنى للسقوط شيء شديد الاثارة حتى انني لا اجروء على التمرد"..ثم هناك      - موريس- في السابعة عشرة محكوم عليه بسبب جرائمه الجنسية. .وليفران. .وهو الشخصية الاكثر تعقيدا في المسرحية. .حيث هو مجرم بسيط لا يشعر بالانتماء للجو الاجرامى الذي يعيش فيه. .ولكي يقاوم شعوره باللانتماء يقوم بقتل موريس. .ولكنه عند ذلك. .يفقد صداقة اخضر العينين. .حيث انهما لا يلتقيان. .فاخضر العينين يصرخ بانه لم يرد كل جرائمه "كل شيء اعطى لي هدية من الله او من الشيطان"..اما هو فقد افتعل جريمته. .أرادها. .وكانت مقصودة لذاتها، ويغرق ليفران في شقاء وجودي ناتج عن اختياره لجريمته " ان شقائي ابعد من شقاتك. .انه ياتى من ذاتي انا.."..ويعلن ليفران في نهاية المسرحية اكتشافه لمشكلة ادباء العبث جميعا حين يقول "حقا انني وحيد تماما". .وقد اعلن جان جينيه نفسه هذا الشعور بالوحدة في يوميات لص. .فقد دخل صديقه ذات يوم. .لحجرة مليئة بالممرات الزجاجية وتسمى (قصر التيه)..حيث يجرب المرء مقدرته على الخروج من المأزق. .وقد تمكن جميع من دخل هذه الحجرة من الخروج. .بينما صديقه بقى ساعات طويلة دون ان يتمكن من الخروج. .بقي يتخبط في الممرات المتشابهة. .يصطدم بالزجاج ويصرخ ويتصبب العرق من جبينه. .والناس في الخارج يتفرجون عليه ويكادون يموتون من كثرة الضحك. .ويقول جان بعد ان رأى كل ذلك "وكان امرا عجيبا ان الكون كله ليس من حولي نقابا شفافا. .وكان الظل الذي يسقط على الأشياء والناس هو ظل وحدتى في مواجهة هذا اليأس. ."..هذا هو بؤس الانسان. .سجن ابدى. .يحاول على مر العصور ان يخرج. .ولكنه لا يفعل شيئا اكثر من الاصطدام بالالواح الزجاجية. .الأوهام التي تؤدي الى طرق مسدودة. وإذا كان جان جينيه يعتبر اليوم من الأدباء الملعونين والكتاب الصعاليك. .فانه انما يعتبر حلقة. .من سلسلة طويلة من امثاله في الادب الفرنسي. .من أمثال رامبو و فرلين والمركيز دي ساد. .وإذا كان بيكيت مستعد لرفع قضية ضد ناشره اذ تلاعب معه. .كما يقول نجيب محفوظ. .فان جينيه قد اضاف بعدا جديدا لادباء اللامعقول وهو انه عاش حياته كما في مسرحياته. .او بالاحرى جعل مادة مسرحياته من حياته هو. . 

  وأخيرا. .بعد هذه اللمحة الموجزة عن كتاب مسرح اللامعقول. .فان ذلك السؤال. .الذي طرحناه في البداية. .يعود فيفرض نفسه مرة اخرى. .لماذا؟ ..لماذا مسرح اللامعقول. .لماذا هذه المواقف الغربية. .لماذا اليأس. .والشعور بانه لماذا ان النتيجة النهائية للحياة هي الموت فانه لا معنى لاي شيء قبل الموت. .لماذا التشاؤم. .ولماذا الهروب وراء الاقنعة المزيفة. .وعشرات من أدوات الاستفهام الاخرى تبرز لنا كل اتجاه. .وتقف متطاولة امامنا. .ولكن لا وجود للاجوبة. .فها يونيسكو يقول" يجب الا يسألني احد عن الهدف من وراء هذا المسرح. .مسرح العبث. .فليس هذا من اختصاصي فالفنان يجب ان يعبر عن الحقيقة. .ان يحاول التعبير. .اما الذي يبحث عن الهدف فهو رجل السياسة او رجل الدين. .اما انا فافتح الطريق واشق الصخور والقي بالاضواء هنا وهناك. "..وإذا كان انيس منصور يعتقدا ان المسرح العبثي ليس الا راحة للعقل من التفكير المنتظم. .فانه في ظني يقع في خطأ كبير. .لان مسرح العبث. .او الفكرة اللامعقولة ليست راحة للعقل مطلقا. .لانها تحتاج الى طاقة كبيرة. .لتسطيع هذه الفكرة ان تتجاوز العقل وتصل إلى الانسان الاخر. .لتجعل الخيال يقفز قفزة كبيرة متخطيا حدود العقل ليصل الى اعماق الانسان. .

   واللامعقول ما هو الا رحلة شاقة. .مليئة بالالام والعذاب والقلق والحيرة. ..والتخبط في تجارب جديدة لاكتشاف الطريقة المثلى لتوصيل المعاني للانسان بذلا من اللغة التي اثبت فشلها طرق تعتمد على الايحاء وعلى الاجواء الغريبة والطقوس الدينية والتراتيل. .وذلك كله من اجل انقاذ الانسان من براثن الموت والغربة التي 

يعانيها. .من اجل انقاذ ذلك العجوز البائس الذي يحاور الكراسي الخالية طوال ثلاث ساعات ثم يلقي نفسه منتحرا في النهر. .من اجل أولئك الذين يهلوسون ويخاطبون أنفسهم بلغة غير مفهومة. .من اجل انقاذ الانسان من اللامعنى وإعطاء معنى لحياته. .بمحاولة اكتشاف هذا اللامعنى وفهمه. .كما يقول يونيسكو..هو الشيء الوحيد الذي يمكن ان يكون له معنى. .ولم يبق للانسان الان. .بعد ان فشل في كل المحاولات التي قام بها لعقد الاتفاقات مع نفسه وغيره. .لم يبق له سوى الحب. .الحب وحده. .ان نحب هؤلاء من غيرنا الذين عجزنا عن الاتصال بهم لانه في لحظات الحب العظيمة. .يستطيع ان يجد الانسان الاف الطرق التي تكفل له التغلغل في أعماق النفس البشرية دون الالتجاء الى اللغة. .والعالم كله الان بحاجة الى مواجهة رغباته الحقيرة التي تنتابه وخنقها. .فبالحب وحده يمكن للانسان ان يخفي شبح القنابل الهيدروجينية المعلقة فوق راسه. .وبالحب وحده يمكن القضاء على الموت الابدي. .

   وإذا كان كير كيجور. .قد رفض الزواج من حبيبته "ريجيه" فليس ذلك لانه رفض الحب. .بل ذلك يعني انه رفض حبه ان يتوقف عند نقطة مادية فانية. .فجعل حبه لريجيه طريقا نحو حب أبدي خالد مطلق. .نحو اللامتناهي. .وربما كان هذا هو الحب الذي عبر عنه (رامبو) فى قصيدة (الحب والجسد)..والتي يعلن فيها حاجة الانسان الى الحب:

أجل. .ان الانسان لحزين وذميم، 

حزين تحت السماء الرحيبة

انه يرتدي ثيابا لانه لم يعد رشيقا

لانه قد لطخ طلعته الالهية الفخور

وانت. .أي افروديت العظيمة

من قلب البحار الهائلة ستظهرين مشرقة رائعة

قادفه على الكون الرحيب

فيض الحب اللانهائي في ابتسامة لا نهائية

والعالم سوف يهتز كقيثارة عظيمة

بارتعاشة قبلة لا حدود لها. .

العالم ظامىء للحب وسوف تروين غليظة.

---------

 أهم المراجع:-

1- وداعا ايها الملل- انيس منصور

2- مسرحيات عالمية- مسرح العبث

3- المعقول واللامعقول في الادب الحديث- كولن ولسن

4- الفنون- المجلد الأول- العدد الثاني سنة 1971

5- كاليجولا- البير كامو

6- الجوع والعطش- يونيسكو- ترجمة د.سامية أسعد

7- كير كجارد- د.فوزية ميخائيل

8- المعقول واللامعقول في الادب المعاصر-يوسف الشاروني

9- دراسات اوربيه- د.لويس عوض. 


كتبت هذه الدراسة في السبعينات/مجلة قورينا

مقالة بقلم سعود سالم


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش