فينومينولوجيا \ موريس ميرلوبونتي


 




فينومينولوجيا موريس ميرلوبونتي

     مقدمة:

ان موريس ميرلوبونتي (1908-1961) هو أهم ممثلي الفينومينولوجيا في فرنسا، إذ تكمن أهميته في القراءة الجديدة التي قدمها للفينومينولوجيا، فعلى الرغم من تأثره الواضح بكل من هوسرل و هيدغر إلا أنه لم يكن يفكر مثلهما و إنما فكر معهما، حيث وجد أن هناك طرحين مختلفين للفينومينولوجيا أحدهما يجعل منها بحثا في المعرفة و هو الذي يمثله هوسرل و ثانيهما يجعل منها مبحثا في الوجود و هو الذي يمثله هيدغر.. إن ميرلوبونتي لا يتنكر لأنواع الفينومينولوجيا السابقة و إنما تبين له أن الفينومينولوجيا ليست صياغة جاهزة بل هي إمكانية مفتوحة، و هو التصور الذي كان مبررا لقيام ما أسميناه ب"الفينومينولوجيا الجديدة". وسنحاول في هذه الدراسة أن نتحدث عن الفينومينولوجيا عند ميرلونتي من خلال الإجابة عن السؤال التالي:ما هو مفهوم الفينومينولوجيا لدى ميرلوبونتي؟


١ - مفهوم الفينومينولوجيا عند ميرلوبونتي

    لقد سعت فينومينولوجيا ميرلوبونتي أولا إلى إيجاد حل لمسألة الوعي؛ لأن فلسفات الوعي خصوصا لدى ديكارت و هوسرل، ترى أن الوعي يحمل موضوعات هي نتاج له، ففي الوعي لا يوجد إلا ما تسميه هذه الفلسفات بنوع من الغموض "الأنا" الذي تكون له الأولوية المطلقة؛ أي أولوية الوعي على العالم، أو الذات على الموضوع، لذلك نجد أن هوسرل جعل من الوعي نقطة الانطلاق في توضيح معالم الفينومينولوجيا، فما هو معروف عن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عنده هو أنها تتخذ من الأنا المتعالي مقولة أساسية، فهو الحقيقة النهائية التي نصل إليها بعد كل عمليات الرد الفينومينولوجي بدءا بوضع العالم بين قوسين مرورا بالرد الماهوي وصولا إلى الرد المتعالي. لكن الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي لها مفهوم جديد للوعي.

    إن فينومينولوجيا هوسرل تهتم بدراسة الوعي و الخبرة الكامنة فيه دون الإهتمام بعلاقة الوعي بالأشياء و هذا هو النقص الذي حاولت الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي تجاوزه حيث يقول هذا الأخير: "إننا لا نآخذ فلسفات الوعي، على تحويلها العالم إلى نويما فقط، و إنما كذلك على تشويهها كينونة "الذات المفكرة" بإدراكها " كفكرة" ولجعلها علاقة الذوات بغيرها من "الذوات" الأخرى غير مفهومة في عالم مشترك بينهما ففلسفة الوعي تنطلق من مبدأ يقول أنه إذا كان لإدراك ما أن يكون إدراكي، فعليه أن يكون واحدا من تصوراتي". إن ما يرفضه ميرلوبونتي إذن هو أولا التمييز الهوسرلي بين أفعال التفكير  وموضوعات التفكير لأن هذا التمييز يشوه مفهوم العالم و يحوله من وقائعيته إلى موضوعات تصورية مفكر فيها، وثانيا يرفض ميرلوبونتي التشويه الذي لحق بمفهوم الذاتية نتيجة ربطها بالوعي و عزلها عن وجودها الحقيقي الكامن في العالم مع ذوات أخرى و عليه لا يمكننا إرجاع العالم و الآخرين إلى الوعي الذي توجهه الذات المفكرة حيث تكون الفينومينولوجيا هي دراسة ظواهر الماهيات في الوعي، وإنما تكون التجربة الواقعية المعاشة بالعالم و الآخرين هي أساس تفكيرنا، وهذا ما لم ينتبه إليه هوسرل و كل فلسفات الوعي السابقة.

      يتبين لنا أن النتائج التي توصلت إليها الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي تختلف عن تلك التي كانت موجودة في فلسفات الوعي السابقة و خصوصا لدى ديكارت و هوسرل، فقد أعطى ميرلوبونتي مفهوما جديدا للذاتية مفاده أن :"الذاتية هي حضور مباشر في الوجود، وهي كذلك في اتصال مع العالم بل هي أقرب ما تكون إلى ذاتها، لأنه لا شيء يقدر على فصلها عن ذاتها"فهي ذات عارفة و موجودة في الوقت نفسه وتؤدي وظيفتها المعرفية دون أن تنسى وجودها.  هذه الفكرة سبق لهيدغر أن تحدث عنها

    و عليه، و مما سبق فإن دخول فينومينولوجيا ميرلوبونتي في حوار مع فلسفات الوعي السابقة، أدى إلى ظهور مفهوم جديد للوعي، و أصبحت له مهام ووظائف جديدة وعلاقات متنوعة، لأن: "كل وعي يولد في العالم، وكل إدراك هو ميلاد جديد للوعي"يقول ميرلوبونتي :"في صمت الوعي الأصلي يمكن أن يظهر لنا ليس فقط ما تقوله الكلمات  وإنما أيضا ما تقوله الأشياء". إن الصمت في فينومينولوجيا ميرلوبونتي لا يعني غياب الكلمات و إنما حضور الأشياء، فالمعرفة الحقيقية ليست المعرفة الخالصة التي تتحدث عنها فينومينولوجيا هوسرل، بل هي المعرفة التي تطلعنا على الأشياء، و الوجود الحقيقي ليس هو الوجود المنسي المنفصل عن موجوده كما يرى هيدغر و إنما هو الوجود الذي يكون في اتصال مع الموجود، كما أن الخبرة الحقيقية ليست الخبرة الموجودة الكامنة في الوعي و إنما خبرة الإدراك الحسي الذي يحمل معه ظواهر الأشياء كما توجد في العالم أو التي يحمل اتجاهها قصدية طبيعية.

     يعتبر ميرلوبونتي القصدية كأهم اكتشاف قدمته الفينومينولوجيا، ولكنه يعترض على مفهوم القصدية و كيفية توظيفها في الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عند هوسرل، و لأجل ذلك يعود إلى فلسفة كانط، و يؤكد أنه في نقده للفلسفات المثالية بين أن كل إدراك داخلي لا يمكن أن يتم دون إدراك خارجي، حيث يكون العالم هو ذلك الاتصال الموجود بين مجموعة من الظواهر الموجودة حتى قبل الوعي بها، و بالتالي فإن وحدة العالم موجودة قبل معرفته، و هذا بالتحديد ما غفلت عنه قصدية هوسرل. ينطلق ميرلوبونتي في نقده للقصدية الهوسرلية من فكرة الوجود الواقعي للظواهر قبل الاتصال بها، على عكس قصدية هوسرل التي تحيل العالم و ظواهره إلى الوعي و تجعل منه وجودا مثاليا فيكون الوعي فعلا معرفيا ينجزه الأنا المتعالي، وهذا ما جعل القصدية في النهاية تأخذ طابعا مثاليا بعيدا تماما عن الواقع، فأين يكمن الحل هنا؟  وبعبارة أخرى ما البديل الذي قدمه ميرلوبونتي لتجاوز هذه القصدية ذات الطابع المثالي؟.

   يقول ميرلوبونتي: "إن كامل التحليل الهوسرلي، محاصر بطوق من الأفعال التي تفرضها عليه فلسفة الوعي، لذلك يجب أن نستأنف و نطور القصدية الفاعلة التي هي القصدية داخل الوجود... حيث لا يجب أن ننطلق من الوعي و مجرى ظاهراته، من خيوطه القصدية المتميزة، وإنما من الدوامة التي يرسمها ذلك المجرى الظاهراتي، أي الدوامة الممكنة(التي هي لحمة و ليست وعيا يقابله موضوع تفكري)"، إن هذه القصدية الفاعلة ستكون هي البديل للقصدية عند هوسرل، التي تفتقد إلى تأصيل علاقة الوعي بالموضوعات، ليست الموضوعات التصورية و المفكر بها، وإنما الموجودة في العالم.

   هكذا، و من خلال هذا المفهوم الجديد للقصدية نصل إلى نتيجتين مهمتين، أولهما أن القصدية الميرلوبونتية تجعلنا نتحول من ذلك العالم المثالي التصوري الذي تخلقه القصدية الهوسرلية إلى العالم الفعلي  والواقعي الذي توجد فيه الأشياء و الظواهر الحقيقية، وثانيهما أن الوجود- في – العالم الذي تحيلنا إليه هذه القصدية، يختلف حتى عن الوجود – في- العالم بالمعنى الذي نجده عند هيدغر، و هكذا يقدم لنا مفهوما جديدا للفينومينولوجيا حيث يتساءل ميرلوبونتي في أول عبارة من كتابه الرئيس"فينومنولوجيا الادراك" قائلا: "ما هي الفينومينولوجيا؟ و قد يبدو من الغريب إعادة طرح هذا السؤال بعد نصف قرن من صدور أول مؤلفات مؤسس الفينومينولوجيا، و التي حدد فيها مفهومها، لكن يجيبنا ميرلوبونتي عن سؤاله قائلا: "إن الفينومينولوجيا هي دراسة الماهيات، كماهية الإدراك  وماهية الوعي مثلا، و لكن الفينومينولوجيا هي أيضا فلسفة ترد الماهيات إلى الواقع". إن ما يتضح لنا من هذا التعريف، هو أن الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي تحاول من جهة أن تبقي على مهمة الفلسفة، والتي هي كشف و وصف ماهيات الظواهر  ولكنها من ناحية أخرى لا ترد هذه الماهيات إلى الوعي أو الأنا المتعالي كما كان مع الفينومينولوجيا المتعالية عند هوسرل و إنما تردها إلى الواقع، لأن ميرلوبونتي أدرك أن الماهية ملازمة للواقع، لأن وجودها الفعلي هو وجود في العالم  والهدف من وراء هذا الإجراء هو المحافظة على الفرضية الطبيعية للعالم التي تم إقصاؤها في الفلسفات السابقة.

  يحدد ميرلوبونتي موقفه من الماهية، بعد مناقشته لمنهج الرد الفينومينولوجي عند هوسرل و الذي يراه هو أنه إذا كانت الماهية هي الهدف الذي تسعى الفينومينوجيا الترنسندنتالية بلوغه فإن الفينومينوجيا الجديدة تأكد على العكس أن الماهية ليست هدفا وإنما هي وسيلة لانخراطنا الفعال في العالم... و إن ضرورة المرور بالماهيات لا يعني أن الفلسفة تتخذ منها موضوعا، ولكن على العكس من ذلك حيث تكون لحظة معينة كمعبر نحو الوجود الحقيقي للظواهلر الكامنة في العالم و عليه فإن معنى الظاهرة لا يتجلى في التعالي عليها الذي يكشف ماهيتها الخالصة، و إنما من خلال التحول من هذه الماهية إلى الواقع الذي يحمل الكثافة الحقيقية للظواهر ووجودها الفعلي.   

   لم ينظر ميرلوبونتي إلى الماهية في علاقتها بالوعي و إنما بالواقع لذلك تكون الظاهرة وقائعية توجد أمام الوعي كما أنها ماهوية لها معنى و في الوعي أيضا، و هنا تتجلى لنا أهم خاصية تميز الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي عن كل الفينومينولوجيات السابقة و على وجه الخصوص الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عند هوسرل ألا و هي بعدها الواقعي، لأن الهدف العام الذي سعى ميرلوبونتي إلى تحقيقه من خلال مشروعه هو تحويل الفينومينولوجيا و إنزالها عن تعاليها و مثاليتها نحو الوجود الفعلي و الواقعي، و كذا تحويل البحث الفينومينولوجي من الماهية إلى الواقع.

   على ذلك فإن ما لم تدركه فينومينولوجيا هوسرل هو التلاحم القائم بين الماهية  والواقع، لأن كلا منهما يتطلب وجود الآخر و يتوقف وجوده عليه، و بالتالي فإن إزالة فينومينولوجيا ميرلوبونتي للتعارض القائم بينهما مكنها من تقديم مفهوم جديد للماهية يعبر عن معناها الحقيقي من جهة، و يمكننا من جهة أخرى، من الوصول إلى الماهيات الحقيقة للظواهر التي لا ترجع إلى الوعي لوحده كأساس أول و مطلق. إنها الماهية التي ترد الظاهرة إلى وجودها الحقيقي، وهو وجود لا يعطي الأولوية المطلقة للواقع على حساب الوعي، و إنما يكون هناك توازي بين الوعي و الواقع دون أولوية أو أسبقية لأحد على الآخر.

٢- المقولات الرئيسة في فينومينولوجيا ميرلوبونتي:

1- الإدراك الحسي:  

   لقد اختزلت فينومينولوجيا هوسرل الإدراك في فكر الإدراك، حيث يكون فكر الإدراك كامنا في محايثة فعل الإدراك لموضوعه المدرك، و هذا ما أدى بالتالي إلى إقصاء فرضية العالم أو الوجود الواقعي للموضوع الذي هو في الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي من أهم أبعاد الإدراك الحسي؛ حيث تكون العودة إلى الأشياء ذاتها كشعار للفينومينولوجيا هي عودة إلى الوجود الواقعي لمختلف الظواهر الموجودة في العالم سواء كانت أشياء أو آخرين، و يكون الإدراك الحسي هو وسيلة تعرفنا عليها كما هي في كثافتها الوجودية دون إحالة  ولا تمثل. يقول ميرلوبونتي: "إن العودة إلى الأشياء ذاتها ما هي إلا عودة إلى هذا العالم الموجود قبل المعرفة حيث تكون وسيلة تعرفنا عليه هي الإدراك الحسي لأن الإدراك هو التقاء مع الأشياء الطبيعية  وعليه فهو نقطة انطلاق بحثنا لما هو نموذج أصيل"، لذلك فحتى و لو أن هوسرل بحث في موضوع الإدراك في فلسفته المتأخرة، إلا أنه لم ينتبه إلى أنه من أكثر مستويات الوعي أصالة، و أنه مكمن خبراتنا الحقيقية بالعالم و إنما بقيت تحليلاته حبيسة الرجوع المتعالي إلى الوعي، لكن ميرلوبونتي بتأكيده على أنه لن نتمكن من وضع حد للوضع المتأزم الذي توجد عليه معرفتنا، إلا بالرجوع إلى الإيمان الإدراكي يكون قد أعطى أبعادا جديدة لمسألة الوعي و ذلك من ناحية إعادة ربط الوعي بالواقع المدرك و كذلك إعادة جسور التواصل بين الذات و العالم هذا التواصل المفقود في الفلسفات السابقة خصوصا مع ديكارت و هوسرل.

   تأكد فينومينولوجيا ميرلوبونتي على ضرورة العودة إلى الخبرة الإدراكية من خلال الارتباط القائم بين الإدراك و ما هو معيش، حيث تقوم فينومينولوجيا الإدراك على العلاقة القائمة بين فكرة الوعي و فكرة العالم مرورا بفكرة الجسد. وقد سعى ميرلوبونتي من خلال هذه الأفكار إلى تجاوز التفسيرات الكلاسيكية للإدراك خصوصا عند النزعتين التجريبية و العقلانية، فالنزعة التجريبية كانت تعتقد أن الإدراك هو عملية تلقي  وتسجيل لمعطيات خارجية، في حين تأكد النزعة العقلانية مقبل ذلك على أولوية العقل و دوره في تأويل ما يتلقاه من معطيات، و بالتالي نكون أمام تفسيرين مختلفين للإدراك، فكيف ستعمل فينومينولوجيا ميرلوبونتي على تجاوز هذا التعارض؟

    لقد خصص ميرلوبونتي جزءا كبيرا من كتاب "فينومينولوجيا الإدراك" للرد على هذين المذهبين، لكن قبل أن نتحدث على ذلك نود أن نبين كيف حاول ميرلوبونتي أن يوضح مفهوم الإدراك الحسي في علاقته ببعض المفاهيم القريبة كالإحساس مثلا، فيعتقد علم النفس الكلاسيكي أن الإدراك يرتبط بالإحساس فيفسره على أنه يحدث كنتيجة لتلقي أعضاء الحس لمعطيات خارجية، و الخطأ الذي يقع فيه علم النفس حسب ميرلوبونتي هو عدم وصف اللحظة التي يرتبط فيها الإدراك بالمعطى إضافة إلى أن علم النفس في تفسيراته كان يأخذ أحكاما جاهزة عن بعض العلوم التجريبية. أما في رده على النزعة التجريبية، فيرى ميرلوبونتي أنه أثناء عملية الإدراك نتلقى معطيات لكن ليس بطريقة آلية، لأن المعطى يظهر من خلال علاقته بالوعي، و الذي لا يكون وعيا خالصا و إنما وعيا بالجسد، لأنه وسيلة الإدراك أو ما يضمن لنا أن ندرك  وسنرى في ما بعد كيف تتم هذه العملية. و إذا كانت النزعة التجريبية تجعل من العملية الإدراكية عملية آلية ناقلة فإن النزعة العقلية، تضفي أحكاما عليها، و مع أننا حسب ميرلوبونتي لا ننكر دور العقل في عملية الإدراك إلى أننا لا نعتقد أنه العامل الوحيد المتحكم في هذه العملية، فعندما أدرك مكعبا كما يقول ميرلوبونتي ذو ستة أوجه فإنني لن أتمكن من إدراك أوجهه الستة إلا إذا تحركت، مع أن حركتي أو دوراني لن يغيرا من وضع الشيء المدرك.

 وعليه استطاع ميرلوبونتي تقديم حل لمشكلة المعرفة بحل مشكلة الإدراك و تجاوز التفسيرات الكلاسيكية مع المذهب التجريبي و المذهب العقلي، فأصبح الإدراك أكثر ارتباطا بالذات المدركة و الموضوع المدرك معا دون أن تكون هناك أولوية لأحد الطرفين على الآخر، و هكذا يكون الإدراك الحسي للذات الواعية المتجسدة هو من يخبرنا عن  الأشياء  والآخرين و العالم. لكن إذا كان الإدراك هو تعبير عن قصدية الجسد نحو العالم فكيف يكون كذلك وجودا أصيلا؟

    يؤكد لنا ميرلوبونتي على ضرورة: "أن نبحث في الإدراك الحسي عن معنى وظيفته الوجودية"لأنه يرتبط بمشكلة الوعي كما يرتبط بمسألة الوجود، و هذا ما توضحه لنا مقولة الوجود-في- العالم، التي تبين أن الإدراك الحسي هو انخراط في العالم من خلال الجسد، فالخبرة الإدراكية بما هي خبرة حسية هي مقابلة تماما لمفهوم الخبرة المجردة عند هوسرل، ومن بين مهامها أنها: "تعلمنا كيف نرى الشيء جيدا"، لأن الإدراك هو رؤيتنا أو اطلاعنا على الوجود أو الكينونة سواء و جود الآخرين أو الأشياء و بالتالي وجودنا لأن هناك وحدة في الوجود، و هي وحدة ظلت مغيبة و خاطئة في كل التفسيرات لأنه تم تفسيرها تفسيرا ميتافيزيقيا أحيانا  وتفسيرا سببيا أحيانا أخرى.

2- الجسد الموضوعي/الجسد الخاص:

   ترفض الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي تلك الفكرة التي كانت سائدة في الدراسات المعاصرة خصوصا في ميدان الفيزيولوجيا، وهي الفكرة التي تنظر إلى الجسد على أنه شيء أو موضوع مثل بقية الموضوعات المادية، وهي نظرة تضعها فينومينولوجيا ميرلوبونتي موضع مساءلة: فهل فعلا أن الجسد هو موضوع فيزيقي لا يختلف عن غيره من الموضوعات الأخرى أم أنه يحمل معنى آخر و خصائص ومميزات أخرى تجعله مختلفا تماما عنها ؟

   إن ميرلوبونتي يقترح علينا أن نتحول من ذلك الموقف الذي يعتبر الجسد بمثابة موضوع لا يختلف عن الموضوعات الأخرى و التوجه إلى خبرتنا بأجسادنا من أجل أن نتعرف على المفهوم الحقيقي للجسد: "وسنجد أن الطريقة التي تلمس بها يدي الشيء ... تمكنني من فهم وظيفة الجسد الحي بعد أن أكمله بنفسي، حيث أكون جسدا يتجه نحو العالم"، لأن هناك قصدية أصلية من الجسد نحو الأشياء و العالم وهذا ما تعبر عنه تلك الخاصية الأساسية التي يختص بها الجسد  والتي تجعله في الوقت نفسه متميزا عن الموضوعات الأخرى ألا وهي خبرة الجسد و التي تدل على وعينا به، ولكي يوضح لنا ميرلوبونتي طبيعة هذه الخبرة يناقش التفسيرات التي تقدمها بعض النظريات العلمية المعاصرة حول الجسد- والتي سنتحدث عنها لاحقا- و يحاول أن يقدم تفسيرا جديدا يتناسب مع توجهه الفلسفي .

  إن وجود الجسد في العالم ومعرفته بالموضوعات يبين لنا أن له علاقات متنوعة معها وهذه العلاقات تظهر أن الجسد هو موجود ذو مظهرين، فهو من جهة شيء من الأشياء، ومن جهة أخرى يرى ويلمس والمظهر الأول مرئي بينما المظهر الثاني لا مرئي، يسمي ميرلوبونتي الجسد الأول بالجسد الموضوعي Le corps Objectif  والجسد الثاني بالجسد الفينومينولوجيphénoménologique  Le corps . يتبين لنا أن موقف ميرلوبونتي من الجسد رافقه تحول في النظرة إلى الجسد، فبعد أن كان في فلسفات الحداثة مقولة ثانوية ومهمشة، أصبح الجسد مركز اهتمامات الفيلسوف، با أصبح الجسد مركز الوجود.

3- فينومينولوجيا الوجود-في-العالم:

   إن من أهم رواسب الفلسفات السابقة سواء الحديثة أو المعاصرة هو مشكلة الوجود-في-العالم L’être-au-monde، وهي المشكلة التي حاولت فينومينولوجيا ميرلوبونتي حلها، وستكون نقطة الانطلاق في حل هذه المشكلة لديه هي إزالة ذلك الخط الفاصل الذي وضعه ديكارت بين الوعي و العالم من خلال رفضه الأخذ بما هو محسوس أو ما له علاقة بالجسد، و إن هذا التمييز يعطي الأولوية للوعي على الوجود، وهذه الأولوية ترفضها الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي، التي أرادت أن تحدث توازنا بين الوعي والوجود من خلال فكرة الجسد، وهنا يعبر ميرلوبونتي عن تصوره للحضور المتجسد في العالم بقوله: "لم يبق أمام فلسفتنا سوى إعادة البحث في العالم الفعلي، حيث نكون تأليفا بين النفس والجسد...فلا يكون الجسد مجرد وسيلة للرؤية أو اللمس ولكنه هو دعمها وعوض أن تكون أعضاؤنا أدوات على العكس من ذلك، فإن أدواتنا هي التي تكون أعضاء مكملة"، أي مكملة لانتماء الجسد إلى العالم، وهي دعوة صريحة من الفينومينولوجيا الجديدة من أجل العودة إلى العالم المعاش الذي نحن حاضرين فيه بأجسادنا وليس العالم المفكر فيه، و الذي هو عالم الوعي. وهذا الأمر يظهر التصور الجديد لعلاقة الوعي بالعالم فنحن: "لسنا وعيا يقابله العالم، ولكن وعي متجسد، و وجود في العالم" ولا يمكن فهم هذا الوجود المتجسد إلا من خلال فهم موقف ميرلوبونتي من فكرة الجسد.

 لقد عملت فكرة الجسد عند ميرلوبونتي على الخروج من الذاتية إلى الواقعية؛ لأن الهدف هنا هو إعادة جسور التواصل بين الذات و الموضوع، وهو الهدف الذي عجزت الفينومينولوجيا المتعالية عند هوسرل عن تحقيقه، لأن فكرة القصدية عنده بقيت مرتبطة بالوعي الخالص، أما عند ميرلوبونتي فهي كامنة في الجسد، وهذا ما يفهم من قوله :"أنا لست أمام جسدي، أنا داخل جسدي، أو بالأحرى أنا عين جسدي"، وهكذا نحصل على طريقة جديدة للوجود في العالم، ألا وهي الوجود المتجسد. هذه الفكرة تقدم لنا حلولا لبعض المشكلات الفلسفية، خصوصا مشكلة علاقة الذات بالموضوع كمشكلة معرفية، فلا تعود هناك أسبقية لأحد الطرفين على الآخر لأن الجسد هو ذات وموضوع في الوقت ذاته، كذلك يحل الوجود المتجسد مشكلة علاقة النفس بالجسد التي بقيت عالقة لمدة زمنية طويلة وهذا ما يتمثل في قول ميرلوبونتي: "إن وحدانية العالم المرئي  والذي هو بالأساس لا مرئي، يعوض ذاته من خلال إعادة اكتشاف "الوجود العمودي" L’être vertical الذي هو حل لمشكلة علاقة النفس بالجسد"، وهذا الذي يسميه ميرلوبونتي بالوجود العمودي هو الوجود المتجسد الذي هو بدوره تعبير عن وحدة النفس بالجسد دون أن تكون هناك أولوية لأحدهما على الآخر أي لا للجانب الروحي و لا للجانب المادي وفي هذا تجاوز للكثير من المذاهب خصوصا المذهبين الروحي و المادي وهكذا يصبح الإنسان لا هو روح ولا هو مادة،  بل هو مجموعهما معا.

 من الفينومينولوجيا الترنسندتنالية إلى الفينومينولوجيا الجديدة يظهر ذلك التحول في طرح مسائل الفينومينولوجيا أي من الذات العارفة إلى الجسد العارف. و يترتب على هذا التحول ظهور نتائج جديدة ترتبط بعلاقة الذات بذاتها و بغيرها من الذوات، وبالتالي بالعالم فالذات تصبح متجسدة مع أجساد أخرى  والفينومينولوجيا تتحول من وصف ظواهر الوعي إلى وصف ظواهر العالم الواقعي من خلال التوجه إلى الوجود في العالم الذي هو وجود متجسد، ليصبح الجسد موضوع تأملات الفينومينولوجي بعد أن بقي مهمشا لمدة زمنية طويلة منذ أفلاطون مرورا بعهد الكنيسة وديكارت وصولا إلى هوسرل.

    ومما سبق نصل إلى أنه إذا كانت الفينومينولوجيا المتعالية لدى هوسرل تصف ماهيات الظواهر الخالصة الكامنة في الوعي من أجل حل مشكلات مبحث المعرفة، وإذا كانت فينومينولوجيا هيدغر تصف ظهور الوجود من أجل حل مشكلات مبحث الوجود فإن ما تصفه الفينومينولوجيا الجديدة عند ميرلوبونتي هو الوجود الواعي المتجسد في العالم لأنها فينومينولوجيا تندرج في إطار مبحثي المعرفة و الوجود على حد السواء فهدفها ليس هو بلوغ المعرفة الكامنة في الوعي ولا هو السعي إلى إظهار تحجب الوجود و إنما هو كما يصرح بذلك ميرلوبونتي: "وصف تجربتنا التي هي أقدم من أي رأي  والتي هي تجربة سكن العالم بأجسادنا"، وإن هذه التجربة هي التي تعبر عنها فلسفة ميرلوبونتي المتأخرة من خلال مقولة "اللحمة" La chaire التي تعبر عن كيفية الوجود  والتلاحم القائم بين الوعي و الجسد و العالم، وهي مقولة لا نجد لها أي معنى في كل الفلسفات السابقة لأنها تعبر عن نوع خاص من الوجود هو :"الوجود الصامت الذي يريد أن يظهر معناه الخاص".

      وعليه نستنتج أن ما يميز فكرة الوجود المتجسد هو أنها تقدم حلا للكثير من المشكلات المترتبة على الفلسفات السابقة سواء المعرفية منها أو الوجودية، و خصوصا منها مشكلة علاقة الذات بالموضوع، ومشكلة علاقة النفس بالجسد، و مسألة الوجود في العالم، فقد تجاوز ميرلوبونتي الكثير من الفلسفات السابقة سواء الحديثة منها أو المعاصرة لأنه أدرك أن: "التفلسف هو البحث و افتراض أن هناك أشياء يجب رؤيتها و التحدث عنها، لكننا اليوم لم نعد نبحث لأننا نرجع إلى أحد التقاليد أو آخر ثم ندافع عنه. إن فينومينولوجيا ميرلوبونتي هي إذن دعوة لتجاوز الموروث والعمل على أن نبحث عن أشياء جديدة نعبر عنها أو بالأحرى نتركها تعبر عن نفسها.

المصدر:

مخبر الفينومينولوجيا و تطبيقاتها \ محمد بن سباع


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش