الرغبة هي جوهر الإنسان \ سبينوزا
الرغبة في فعل أي شيء ترتبط بالنتيجة التي سوف يحدثها للمرء، والنتيجة النهائية التي يريدها أي فرد من أي فعل هي الشعور باللذة والمتعة والمعنى، إن اعتبرنا أن المتعة الذهنية متعة فعلا وليست مجرد وهم. يمكن التأكيد على هذا الاستقراء من خلال عدة نماذج:
- العمل مثلا ليس غاية في ذاته، فالغاية منه كسب المال، والمال ليس غاية في ذاته، الغاية منه شراء الخدمات، والخدمات ليست لها غاية في ذاتها، فسبب وجودها راحة الإنسان ومتعته، والسؤال عن الغاية من متعة الإنسان لا معنى له، لأن الغاية التي تتجاوز الإنسان لن يدركها إدراكا حقيقيا، وقد لا تعنيه فعلا، وربما تعني الآلهة أو أي كينونات أخرى إن وجدت.
- العلاقة بين الجنسين مثلا ليست غاية في ذاتها، فالهدف هو الجنس والاهتمام المتبادل والشعور بأن المرء مرغوب (ولو أنه دافع غير منطقي) ، أي تحقيق دوافع فيسيولوجية ونفسية.
يبقى إذا أن المتع الحسية والمعنوية والنفسية هي جوهر الفعل البشري، وما يؤرق أو يجعل تجربة الإنسان في العيش مختلة بدرجة أو بأخرى هو إما:
- عجزه عن عيش ما يعتبره متعة وفق تكوين مزاجه، وهو ما يمكن تسميته الموانع الموضوعية لتحقيق الرغبة، مثل القانون والدين والأسرة والبطالة إلخ.
- امتناعه لدواع ذاتية : القناعات سواء الحرة أو التي تنبع عن معتقدات تمت برمجة الدماغ عليها بفعل التنشئة.
وفي الحالين يمكن التمييز في الموانع الذاتية والموضوعية بين قسمين:
* موانع لا بمكن تعديلها انطلاقا من الرغبة والعقل والعمل الفردي، بل تتطلب إما بعدا سياسيا أو صدفة طبيعية.
* موانع يمكن للفرد تعديلها أو تجاوزها اعتمادا على موارد ذاته.
مثال العقبات التي لا يمكن للفرد تجاوزها بناء على الإرادة والعقل: إعاقة بدنية مزمنة أو مرض غير قابل للشفاء - الشيء الممنوع قانونا في كل تشريعات البشر (في حالة جواز بعض تلك الممارسات في دول معينة يمكن الانتقال إليها) - الشيء الذي يفوق الطاقات العضلية والذهنية والمكانة الاجتماعية والقدرة الاقتصادية- الرغبات التي تصطدم بقوانين مستضمرة في طبيعة الزمكان...
مثال العقبات التي يمكن للفرد تجاوزها:
الشيء الممنوع بحكم عقيدة دينية أو سياسية أو أعراف عرقية ثقافية إلخ، حيث يمكن للعقل العمل على تفكيك الانتماء أو إعادة تركيبه بصيغة أخرى (علمنة الأديان - تعديل العقائد السياسية - الخروج من نمط الاعتقاد كليا كيف ما كانت طبيعته)- الشيء الذي يقعدنا عنه الاكتئاب أو الشعور بالفشل أو الخوف والخجل والتردد إلخ، حيث يمكن تعديل المشاعر أو الحالات النفسية بصفة عامة من خلال فهم حكيم لطبيعة الحياة والإنسان- الشيء الذي يمتنع عن الذات كامتناع شخص آخر أو حيوان إلخ ويمكن العمل على تعديل طريقة تفاعله مع رغباتنا من خلال طرق عديدة...
في كل الأحوال تكمن حكمة السعادة في التمييز بين ما يمتنع موضوعيا وذاتيا، ثم حدس ما يمكن تغييره أو إلغاؤه من عقبات وما لا يمكن. وهو التمييز الذي قام به الرواقيون والأبيقوريون منذ زمن بعيد، حيث :
- يواجه ما يمكن تعديله ليحقق لنا رغباتنا ومن ثم متعنا العقلية والحسية بالشجاعة والعمل والصبر.
- يواجه ما لا يمكن تغييره بالحكمة والتقبل والتسليم والتعايش إن أمكن (حتى وإن كان الموت، بل الموت هو المقصود خصوصا).
وكلا الأمران صعبان ويتطلبان عملا ذهنيا وجسديا كبيرا، يبدأه المرء في أي وقت من تجربة الحياة، حيث لا يشترط الوعي تحديدا زمنيا، كما أن الرغبات ليس محدودة في الزمن أو الكم والكيف.
وهو ما يقودنا إلى ضرورة تلميح آخر مهم: أي رغبات بالضبط، وهل كل الرغبات ممكنة.
ويعني ذلك الخوض في المحدد الأخلاقي للرغبات التي تحقق المتع للإنسان، ويمكن تناولها من منظورات العقائد والتشريعات المدنية والأعراف الاجتماعية والرؤى الفلسفية حسب مصادرها وتموقعها، غير أن الأكثر صدقا في تصوري، هو أخلاق اللذة، لأنها الأقرب لفهم عملي للحياة، أي أن ما هو قبيح هو ما يؤلم سواء الفرد أو الجماعة بمعناها الواسع، وما هو مستحسن أخلاقيا هو ما يحقق اللذة للجماعة والفرد، أو للفرد دون الإضرار بالآخر الذي يشكل معه لحمة الجماعة، وهو تعريف أبيقور، لكن يمكن أن نضيف أن لا يشمل الألم كل الكائنات وأن تشمل اللذة كل الكائنات الحية، بشكل نسبي طبعا.
المتعة إذا، بالنظر إلى محددها الأخلاقي (اللذة وشمول الكائن الحي)، غاية عملية لحياة الإنسان ووجوده، وحتى إن لم يمكن اعتبارها عنصرا مفسرا لغاية الوجود كلية ولأسبابه ومنبعه ومآله، تبقى المعنى الأقرب للإدراك. وعليها فقط يمكن تأسيس الوعي الفردي للإنسان- الفرد وبناء السياسات العامة للإنسان- الجماعة. فكل مشروع عقائدي أو إجتماعي يهدف الي كبح اللذة هو مشروع غير حكيم.
تعليقات
إرسال تعليق