إن قسوة الحياة تؤدي الى ولادة الخير في القلوب العظيمة \ فاسيلي غروسمان


 


إن قسوة الحياة تؤدي الى ولادة الخير في القلوب العظيمة. لاحقا تسعى هذه القلوب الى إعادة هذا الخير الى الحياة مرة أخرى، على أمل أن تجعل الحياة تتوافق مع ما تعنيه صورة الخير لديها. ولكن الحياة لا تتغير وفق تصوراتنا عن الخير. بل أن ما يحدث هو أن رؤيتنا للخير تغرق في مستنقع الحياة، فتفقد سمتها الكونية، وتنقسم الى شظايا مبعثرة، يتم استغلال بعضها وفق ما يتطلبه الوضع الراهن. إن الناس تخطئ في رؤيتها للحياة كصراع بين الخير والشر. فهؤلاء الراغبين في تحقيق كل الخير للإنسانية، هم في نفس الوقت غير قادرين على زحزحة الشر بمثقال ذرة.


قد شهدت بعيني ولادة الجبروت الذي لا يقهر لفكرة خير المجتمع في بلادي. رأيت كيف يتم الصراع من أجل هذا الخير خلال مرحلة تشكيل التعاونيات, ورأيتها في عام 1937. لقد شهدت كيف تمت إبادة الناس باسم فكرة تحمل كل نقاوة وإنسانية المثل العليا للمسيحية. رأيت قرى بأكملها تموت من الجوع، وشاهدت أطفال الفلاحين يموتون في ثلوج سيبيريا. رأيت قطارات متجهة الى سيبيريا محملة بالمئات والآلاف من رجال ونساء من موسكو، لينينغراد ومن كل مدينة روسية. جميعهم اعتبروا أعداء للفكرة العظيمة البراقة عن “الخير الاجتماعي” على الرغم من نبل هذه الفكرة، الا أنها قتلت البعض بلا رحمة، وشلت حياة البعض الآخر، وفرقت بين الأزواج وأبعدت الأطفال عن ذويهم.


ذات مرة، وبينما كنت أعيش في غابات الشمال، اعتقدت بأن “الخير” لن يوجد في الإنسان أو في عالم الحيوانات المفترسة، أو الحشرات، بل في المملكة الصامتة للأشجار. كم كنت مخطأ في ذلك الاعتقاد! لقد رأيت الغابة وهي تتحرك ببطء وبغدر ضد كل بوصة من تربة الأعشاب والحشائش. في البداية تطير ملايين البذور في الهواء لتتبرعم وتنمو بسرعة، مدمرة كل ما يقف حجرة عثرة في طريقها من الأغصان الكثيفة. ثم تبدأ الحرب الطاحنة بين ملايين الأغصان ضد بعضها البعض، ولا ينجو من هذه الحرب الشعواء إلا من يتمكن من يدخل في تحالف مع الأغصان المتسقة مع بعضها البعض ليبنوا بسلاسة المظلة المقببة للغابة الشابة، ولكن السريعة الزوال. تحت هذه القبة، تتجمد أخشاب الزان والصنوبر حتى الموت وهي تغرق في غسق عبودية الأشغال الشاقة. مع مرور الزمن يبدأ تساقط أوراق الأشجار معلنا شيخوخة أشجار الصنوبر الثقيلة، لتنهار بكل ثقلها على الأرض مدمرة شجيرات جار الماء وأخشاب الزان. هذه هي حياة الغابة – صراع دائم من قبل الجميع ضد الكل. فقط الأعمى هو من يمكنه أن يعتقد أن مملكة الأشجار والأغصان هي موطن “الخير”.. ألا يعني ذلك أن الحياة بذاتها هي “شر”؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش