عودة البطل أوليس إلى موطنه \ جان كلود مارو


 


يتحدّث هوميروس في الأوديسّة عن عودة البطل أوليس إلى موطنه، عودة ستكون محمّلة بأبعاد استعاريّة تومئ إلى بحث الإنسان الثّابت عن هويّته المفقودة. فبعد سنوات الحرب التي أثارتها إيريس، إلهة الشّقاق بحسب الأساطير الإغريقية القديمة، كان أوليس يريد العودة إلى موطنه، عساه يلتقي من جديد بزوجته بينيلوب وابنه تيليماك. غير أنّ تلك العودة التي ستستغرق عشر سنوات، ستتخلّلها سلسلة من المغامرات والمآزق التي ابتلى بها الإله بوسييدون أوليس، سعياً وراء الانتقام لابنه، الصّقلوب بوليفام، الذي فقأ أوليس عينه وصيّره أعمى. وقد سعى بوسييدون في تلك الأثناء إلى جعل أوليس ذاهلاً عن حقيقة سفره، الذي كانت غايته هي الانتقال من الحرب إلى السّلم، ومن الفوضى إلى الانسجام، ومن حياة التّيه والاغتراب إلى أرض الوطن. وقد مثّل غذاء اللّوتس (الذي يتسبّب في فقدان الذّاكرة) ونشيد الحوريّات والنّعاس القاتل ومتعة الحبّ اللانهائي والوعود بالخلود وبشباب أبديّ.. سلسلة من الكوابيس والأوهام المغرية، التي أراد بها بوسييدون إلهاء أوليس وتشويه صورة الوطن في ذاكرته. لقد كانت دعوات إلى النّسيان وفقدان الوعي بالذّات. وكانت أكثر غوايات ذلك النّسيان سطوة هي تلك التي عاشها أوليس بجزيرة كاليبسو ذات الطّبيعة الفردوسيّة. ولكن رغم كلّ العجائب التي كانت تحيط به في تلك الجزيرة، كان أوليس، وهو يتردّد في المغادرة، يشعر بصورة مبهمة أنّه ليس في المكان الذي ينبغي له التّواجد فيه.

يعرّف الفيلسوف جون لوك الهويّة على أنّها «تذكّر للذّات»، وأنّها تقوم بصورة تامّة على الإحاطة بأسرارها. أمّا بول ريكور وحنا آردنت، فيذهبان إلى أنّ تذكّر الذّات هو عبارة عن هويّة سرديّة للذّات وتجسيد للهويّة الذّاتيّة (...). لقد دفع الشّقاق الذي أثارته إيريس وساهم في اندلاع الحرب، أوليس، بعيداً عن وطنه. والحرب.. رمز لالتباس داخليّ، ولذا.. عاش أوليس بفقدان هويّته ليس حالة تنافر مع ذاته وإنّما حالة القطيعة معها، لأنّ فقدان الهويّة لا يقتصر على فقدان المرء لسكينته الدّاخليّة، بل فقدانه أيضاً لكلّ ثبات.

ويترافق ذلك الخلاف في قلب الذّات بإحساس بالفقد، لا رجعة فيه، لفردوس مفقود. فأن يعثر المرء من جديد على مرابع طفولته ويعيش مجدّداً ذكريات الماضي، فإنّ ذلك يعني أن يعيش بشكل معمّق صورة الماضي. وفي هذا السّياق، يكون الإحساس بالعودة إلى الوطن عبارة عن انفراج لألم داخليّ وتصالح مع الذّات.

وما يهمّ.. ليس طبيعة ذلك الفردوس ولا مدى نفاسته، وإنّما هي عمليّة التّصالح التي تتمّ في اللاّوعي، والتي لا تقلّص الفجوة مع الذّات فحسب، وإنّما تقوم بإلغاء تناقضاتها الدّاخليّة أيضاً. ووفقاً لذلك، يكون فقدان الهويّة عبارة عن إحساس باطنيّ حميم يبعد «الذّات» عن حقيقتها الأصليّة (..). الضّياع كفقدان للمعنى أسير بوليفام، الصّقلوب المتوحّش. لجأ أوليس للحيلة والمراوغة بتسمية نفسه «لا أحد». وقد يذكّرنا ذلك بسلوك بعض المهاجرين المقيمين خارج أوطانهم، حين يلجأون إلى إخفاء هويّاتهم للمحافظة على سرّ اختلافهم.

وبعد أنّ أعمى أوليس الصّقلوب أثناء نعاسه واعتقد أنّه بات في مأمن من كلّ خطر، أفصح عن اسمه الحقيقيّ لذلك الوحش، فيكون بذلك قد كشف عن هويّته وعن اختلافه، في مجرى للأحداث سيجعل اختلافه ذاك سبباً في هلاكه. فألقى الصّقلوب بلعنته على أوليس ولاذ بالقوّة التي كانت لبوسييدون للقضاء عليه. وتذكّرنا تلك الحادثة أنّه ليس ثمّة «فقدان للهويّة» وإنّما صراع من أجل الهويّة. وكان التّشويه الذي ألحقه أوليس بالصّقلوب هو الذي حوّل سفر عودته إلى بحث ممضٍّ عن هويّته، بحث ستتخلّله عقبات مرعبة ولكن أيضاً أحداث مدهشة، تضافرت كلّها لتحوّل وجهة أوليس عن إيتاك. ويجد أوليس نفسه هكذا موهوباً للتّيه. حينها، لن يكون الهدف من بحث أوليس هو العثور على هويّته، وإنّما أن يحدو به ذلك البحث كيما يستعيد هويّته المفقودة. وإذا كان ثمّة نسيان، فهو الذّهول عن الطريق المؤدّية إلى الانسجام المفقود الذي يرمز إليه تيه أوليس. والنّسيان الأوّل هو تبعاً لذلك نسيان لمعنى الحياة.

الضّياع بوصفه إمعاناً في النّسيان كانت اللّحظة الأكثر حرجا بالنّسبة لأوليس، تلك التي بدا فيها محكوماً بنسيان مبرم لإيتاك، هي إقامته في جزيرة كالبسو الفردوسيّة. لقد بدت له تلك الجزيرة الحالمة حينها فردوساً بديلاً لإيتاك التي بات أوليس يفتقدها.

وحين كانت كاليبسو تعده بحياة خالدة وشباب أبديّ، أي بتكرار موصول ولا نهائيّ لذاته، فقد نلمس في ذلك استعارة لحبّ الذّات وانكفاء للهويّة. وتدخل زوس وحده كان كفيلاً بتخليص أوليس من استئناسه المرضيّ بالحياة في جزيرة كاليبسو.

ومثل ذلك الاستئناس الذي أبداه أوليس قد يجعلنا نقارنه بالمراحل المختلفة لعلاج الإدمان. والإدمان وفق تعريف لأفيال غودمان هو عمليّة يتبلور من خلالها سلوك قد تكون وظيفته الإمتاع وتسكين ألم باطنيّ، ولكن غالباً ما تنتهي محاولة علاجه بإخفاق متكرّر. وقد ينسحب هذا التّعريف على ما جاء في ملحمة أوليس.

لقد تخلّلت عودة أوليس دعوات عديدة للنّسيان، اكتست شكل وعود بحياة رغيدة مزعومة، كان بوسييدون يوهم بها أوليس كيما يذهل عن ذكرى هويّته ويفقد وعيه بالحياة ذاتها. وقد نرى في بوسييدون هنا رمزاً للغرائز التي تجعلنا نذهل عن حقيقة أنفسنا وعن حقيقة الوجود من حولنا.

وتمثّل مغادرة أوليس لجزيرة كاليبسو بداية فترة الفطام، أي بداية عثوره من جديد على مملكته وأهله وذويه وعلى حقيقة ذاته. ولن يكون ذلك الفطام في الحقيقة هو البلسم، وإنّما بداية الإحجام عن الهروب إلى الأمام في فراديس اصطناعيّة وموهومة. لذا.. سيظلّ أوليس بحاجة إلى مواجهة الكثير من المصاعب، كيما يتخطّى غرائزه ويشفى من حالة «الإدمان»، ويستعيد هويّته الحقيقيّة.


بقلم: جان كلود مارو

ترجمة: أحمد حميدة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش