أيستطيع الرجل العادل أن يعيش في هذا العالم بدون أن يكون ظالماً أو مظلوماً؟ جبران خليل جبران
أيستطيع الرجل العادل أن يعيش في هذا العالم بدون أن يكون ظالماً أو مظلوماً؟
أبإمكان الأبيّ أن يسير على سبل الحياة بدون أن يسحق أحداً بقدميه أو أن تسحقه أقدام السائرين؟
أيقدر من يعتقد بأن الجامعة البشرية مؤسسة على المبادلة أن يقف أيامه على ابتزاز ما للناس أو أن يسمح للناس ابتزاز ما لديه؟
من يخبرني ما إذا كان الحق في القوة أو القوة في الحق؟
أيّ منكم أيها الناس يستطيع أن يخبرني ماذا أفعل عندما ألتقي بالجبان المستبطل أو لما أجتمع بالشجاع المتمسكن؟
أذكر أنني لما كنت صبياً في السادسة كنت أجمع الحجارة الصغيرة وأبني منها بيوتاً صغيرة ذات قناطر وأبواب ونوافذ ثم أقتلع النباتات الصغيرة الجميلة من حديقتنا وأغرسها صفوفاً حول تلك المنازل. وكنت أفعل ذلك بلذة ورغبة غريبتين قلّما شعرت بمثلهما منذ ذاك الزمن. ولكن في المساء لم أكن أنتهي من عملي هذا وأعود الى البيت لتناول العشاء حتى يجيء أترابي الصبيان ويهدموا ما بنيته ويقتلعوا ما غرسته.
فكنت أستيقظ في الصباح وأذهب تواً لأفرح بما صنعته يدي بالأمس فلا أجد سوى الحجارة المبعثرة والأزهار الذابلة فتظلم الدنيا في عيني وتملأ الغصات قلبي فأركض الى والدتي وأشكو لها أولئك الصبيان فتقول لي مبتسمة: «لا بأس لا بأس يا ولدي. إذهب وابن بيتاً أكبر وأجمل من الذي بنيته بالأمس. وعندما تنتهي سأجيء وأساعدك على جمع الأزهار وغرسها حوله».
وبقيت مزاولاً بناء البيوت وغرس الحدائق الصغيرة وأترابي الصبيان يهدمون ما أبني ويقتلعون ما أغرس حتى ثارت روحي فتمردت على أولئك المخربين الأشرار. أجل تمردت روحي على سماحة والدتي وعلى صمتها وطول أناتها. فقلت في ذاتي: لن أبني بيتاً آخر بل سوف أهدم كل ما يبنونه وأخرب كل ما يفعلونه. وهكذا فعلت. فإني صرت بعد ذلك أراقب أعمال وألعاب أولئك الصبيان فلم يبنوا بيتاً إلا وهجمت مستفرساً وهدمت على مشهد منهم ما أقاموه. ولم أكن أكتفي بالهدم بل كنت ألتقط حجارة قصورهم وأرمي بها الى أبعد ما يبلغ إليه عزم ساعدي.
والغريب أن عملي هذا قد جاء بالنتيجة المرغوبة وأوجد التأثير المطلوب في نفوس أترابي الأحداث فصار كل واحد منهم يشعر بأن له عدواً يثأر لنفسه ولا ينام على الضيم.
أذكر قول أحدهم، وقد كان أحبهم لديّ، بأنه أطل ذات صباح من نافذة بيته وناداني قائلاً: «إذا كنت لا تهدم ما أبني فلن أهدم ما تبني». وهكذا تم الصلح بيني وبين رفاقي. فصرت أبني البيوت والقصور - والكنائس في بعض الأحايين - فتبقى على حالها حتى تهب الأرياح وتهبط الأمطار وتهدمها الى الحضيض.
والعجيب أنني لم أكن أشعر بألم أو بأسف عندما كانت الأعاصير تهدم مبانيّ وتبعثر حدائقي، بل وكنت في بعض الأحايين أقف في رواق منزلنا ناظراً الى أعمال العاصفة بشيء من الغبطة والسلامة. فهل كنت أشعر يا ترى إذ ذاك أن كل ما يجيء من الأعالي على الرأس والعين وأما ما يجيء من الناس فلا؟ أو هي الكبرياء تجعلنا ألاّ نرضى إلا بالعاصفة معادياً؟
ما حدث لي أيام الصيف مع رفاقي حول منازلنا وحدائقنا الصغيرة حدث ثانية في الشتاء حول التماثيل التي كنت أصنعها من الثلج. فقد كان أترابي يشوّهون ثمار قريحتي ومظاهر «فنّي» حتى أعدت الكرّة.
تعليقات
إرسال تعليق