تجديد ذكرى أبي العلاء \ طه حسين
أراد طه حسين أن ينقل جملة أفكار لأبي العلاء المعري بصياغته على لسان المعري، فقال:
ما لي وللناس؟! لقد بلوتُ أخلاقهم فلم ألقَ إلا شرًّا، واختبرت طباعهم فلم أجد إلا نكرًا؛ فلتضربنّ بيني وبينهم الحجب، ولتسدلنّ بيني وبينهم الأستار. لقد سمعتُ منهم فما نطقوا إلا محالًا، ولقد تحدثتُ إليهم، وتحدّث إليهم قبلي الحكماء، وأولو النهى فما آثروا إلا طاعة الأهواء، وما استجابوا إلا لدعاء الشهوات. فلتصمنّ عن حديثهم أذني، وليعقدنّ عن تحديثهم لساني. وليمحينّ من قلوبهم شخصي، وليحسبني بعد اليوم من أهل القبور .
ما لي وللدنيا؟! لقد أتيتها كارهًا، وعاشرتها كارهًا، ولأخرجن منها كارهًا. ولقد ذقت من لذاتها ما لم أرجُ، واحتملت من آلامها ما لم أحتسب. فإذا اللذة إلى ألم، وإذا السعادة إلى شقاء، وإذا الأمل إلى يأس، والرجاء إلى قنوط. إني لأحمق إن لم أطرحها قبل أن تطرحني، وأزدرِها قبل أن تزدريني، وأملأ قلبي عن لذاتها بالعزاء النافع، والصبر الجميل.
ما لي وللزواج، والنسل؟! لولا أن أبي قد قذف بي في هذه الحياة لما لقيت ألمًا، ولما احتملت عناء. أفليس يقنعني أن أحتمل هذه الجناية حتى أنقلها إلى بريء لم يجنِ ذنبًا، ولم يقترف إثمًا؟!
ما لي وللحيوان؟! أسخره في منافعي، وأصرفه في مآربي، ولا يرضيني ذلك حتى أستلبه من الحياة حقًا لا أملك استلابه، وأحمله من الألم قسطًا لا تدفعني الرحمة عن تحميله إياه. لطالما روعت الفرخ بأمه، وفجعت الشاة بسلخها، ولطالما صرفت عن الفصيل دره، وغصبت النحل ثمرة كدها. وإني على ذلك لظالم أثيم. إن فيما تخرج الأرض من النبات لدفعًا للجوع، وإن فيما تنزل السماء من الماء لشفاء للغليل، وإن في الحرص على ما فوقها لشرهًا أنا له كاره، وعنه عيوف.
ما لي ولنفسي؟! لقد أصغيت لها حينًا فكلفتني أعاجيبها مثنى وفرادى. وما أراني أفدت من طاعتها إلا الألم، والكد، وسوء الحال؛ فلآخذنها بقانون لا تجوزه، وحدّ لا تعدوه، ولأملكنها بعد أن ملكتني، ولأسيطرن عليها بعد أن سيطرت علي، ولأوفرن على العقل حظه من القوة، والسلطان.
تعليقات
إرسال تعليق