الأدب السوداوي \ كافكا
تبدو فكرة التحوُّل غريبة بحدِ ذاتها فهي مطروقة في الأدب الإنساني منذ القدم، لكن مع كافكا لم يكن التحوُّل معضلة بحدِ ذاته، ولم يسألَ غريغوري سامسا نفسه لماذا تحوَّل؟ كيف تحوَّل؟ كأن التحوُّل مرحلة مُنتظرةٌ أو ملاذ يُلتجأ إليه. وهذا جعلَ التكيُّفَ السريع نتيجةً حتمية في تقبُّل غريغوري وعائلته لهذا الانقلاب المفاجئ لجسد الابن، والفصل الجديد في حياة العائلة. حزنَ الأب والأم والأخت على وفاته في النهاية، لكنهم ما أبدوا قبل ذلك تعاطفاً كبيراً، وما التمسَ غريغوري دفء التعاملَ إلا من أخته، وهي الأخرى شكَّ أنَّ اندفاعها نحوها صبيانيّ غير مُدركٍ ولعلَّ طلبها التخلَّصَ منه يشي بحقيقةِ تعاملها معها. مات غريغوري الحشرة حين قرَّرتِ العائلة التخلّي عنه، لكن ماتَ غريغوري الإنسان حين انمسخَ وجوده وأضاعَ معنى حياته بانشغاله بغيره ونسيانه نفسه. إنَّ غريغور سامسا منعطف نحو المحيط الذي عاشَ فيه، فبعد تحوُّلِه -وربما حتى قبله- كان منعزلاً، لكن التحوُّل علَّم هذا الانعزال، وليس هذا الانعزال بالتلقائي والشخصيّ بل الانعزال الحتميّ الإجباريّ، فما وصول غريغوري إلى الحالة الحشريّة إلا إيذاناً بنهاية الاندماج العائليّ والاجتماعيّ وبتر الصلة التي تربط غريغور بكامل محيطه. إنَّ العائلة كتلة متراصّة تقف قُبالة غريغوري الوحيد والحبيس في حجرته، وما كانت الواقعة كبيرة على عائلته إلى الدرجة التي تمنعهم من مزاولة حياتهم، بل تبدو في كثير من ملامحها نتيجة متوقعة أو حالٍ لا يؤبه كثيراً لها، فإذا ما نزل الموت على الحشرة لم تكن تعني للعائلة أكثر من أنها حشرة كانت ذات يومٍ ابناً، جزءاً من العائلة لكنها لا تنتمي حقاً لها. فما سبب هذا الانفصال والإقصاء إلا في كون غريغوري ما عاد متوائما مع محيطه ولا خاضعاً لإرادته، فجاء تحوّله طبيعيًاً ليقرَّ عليه الإقصاء النفسيّ والجسديّ، تُركَ وحيداً حتى يفنى، وبقيت العائلة وَحْدة متراصَّة.
تعليقات
إرسال تعليق