المنزل المسكون \ فيرجينيا وولف
في أي ساعة من الليل استيقظت، تسمع صوت أبواب ونوافذ تنصفق.. تشعر بهما يتنقلان من حجرة إلى حجرة وقد تشابكت أيديهما، يتحسسان بعض الأمتعة هنا، ويفتحان بعض الأدراج هناك، وكأنما يبحثان عن شيء ما.
قالت له: «لقد تركناه هنا!».
أجاب: «وهنا أيضاً».
تمتمت قائلة: «وربما في الطابق العلوي»
أجاب بهمس: «أو في الحديقة».
قالا بصوت واحد: «علينا أن نكون أكثر هدوءا كي لا نوقظهما».
لكن ليس في إيقاظكما لنا ما يضير، كلا، على الإطلاق. فلا ضير من أن يستيقظ المرء ويقرأ صفحة أو صفحتين...
« إنهما يبحثان عنه.. إنهما أيضا يسدلان الستارة »
«لقد عثرا عليه».
وإذا ما شعر بالملل من القراءة، فإن في مقدوره النهوض على قدميه، والتجول هنا وهناك، ليرى بعيني رأسه هذا المنزل خاويًا على عروشه، والأبواب كلها مشرعة، وليتثبت بنفسه أن ما من صوت يطرق جنبات هذا المنزل سوى صوت هديل الحمام الذي يرقد في أعشاشه مطمئنا في الأيكة المجاورة، وصوت دراسة الحنطة القادم من المزرعة المجاورة.
ما الذي أتى بي إلى هنا؟.. ما الذي أبحث عنه؟.. إنني خاوي الوفاض.
قد يكون في الطابق العلوي.
لقد استقرت التفاحات في العلية.. أما في الأسفل، فإن الحديقة ما زالت كما كانت دائما، لم يتغير فيها شيء عدا ذلك الكتاب الذي غاص في العشب الأخضر.
لطالما كان رفيقا لهما في حجرة المعيشة، حيث لا عين ترقبهما.. زجاج النافذة يظهر صورة لحبات التفاح اليانعة والزهور الندية المنتشرة في الحديقة.. كل شيء يبدو من خلال الزجاج أخضر اللون.. حين ينتقلا إلى موضع آخر من حجرة
المعيشة، لا يظهر لهما سوى الجانب الأصفر من حبات التفاح.. وما أن انفتح باب الحجرة، حتى انبعث من السقف شعاع نور متلألئ ما لبث أن انتشر فوق أرض الحجرة وجدرانها.. ماذا؟
شعاع النور هذا لا يظهر على يدي.. يا للعجب! هذا أيضا ظل أحد طيور السمان يعبر فوق السجادة! وهنا هديل حمائم الدوح يتهادى إلى سمعي قادما من أعماق الصمت البعيدة... جدران المنزل تهمس بعذوبة: «إنه آمن، آمن، آمن).. الكنر مدفون؛ الحجرة...».. يتوقف الهمس برهة من الزمن.. يا إلهي: هل كان ذلك النور المنبعث هو الكنز المدفون؟.. ما أن مضت برهة
وجيزة من الزمن، حتى تلاشى النور تماما.. ترى هل انسل هذا النور إلى المنزل من الحديقة عبر الزجاج؟ لا أظن ذلك، فالأشجار الكثيفة في الحديقة كفيلة بحجب أي خيط من شعاع الشمس، ومن غرائب الأمور أيضا أن شعاع النور ذلك غاص أمام ناظري، وبكل هدوء ونعومة، مختفيا في الأعماق
هكذا هي الحياة! إن شعاع النور الذي ألتمسه يحترق دائما خلف الزجاج.. الزجاج هو الموت.. إن الموت يحوم حولنا في كل وقت، جاء للمرأة أولا، من مئات السنين.. غادرت المنزل، مغلقة خلفها كل النوافذ، تاركة حجرات المنزل تسبح في ظلام دامس.. غادرها هو أيضا، وغادر المنزل.. ذهب شمالا، وذهب
شرقا، وشاهد تقلب النجوم في السماء الجنوبية.. يمم شطر المنزل مرة أخرى، فوجده بيسبح في بحر من الظلمات.
راحت أركان المنزل تهمس بسرور: «هو آمن، أمن، آمن.. هكذا هي
هو لك.. الكنز لك، الكنز لك.كنزك.
الريح تزأر بشدة في الخارج.. الأشجار تنحني وتتأرجح ذات اليمين وذات الشمال.. دفقات من ضوء القمر اللامع تندفع مسرعة عبر الأثير، ثم ما تلبث أن تتناثر وتتبدد خلال المطر الغزير، غير أن ضوء القنديل يسقط مباشرة على زجاج النافذة.. ما زالت الشمعة تحرق نفسها بنهم.. يتجول الزوجان الطيفان في أرجاء المنزل بحثا عن سعادتهما الغابرة؛ يفتحان الأبواب والنوافذ، ويحث أحدهما الآخر على توخي الهدوء كي لا يوقظاننا من نومنا.
قالت: «هنا كنا ننام»..
قال: أجل، قُبل لا عدد لها.
قال الاثنان بصوت واحد: «الاستيقاظ في الصباح الباكر...»؛ «مشاهدة قطرات الندى الفضية تتلألأ على أوراق الأشجار..؛ «الطابق العلوي، وما فيه من ذكريات...؛ الحديقة وجلساتنا فيها...؛ «الصيف وذكرياته...! الاحتفال بقدوم فصل الشتاء...
يتناهى إلى سمعي صوت انغلاق أبواب قادم من بعيد، وما يلبث أن يليه صوت طرقات رقيقة كأنها نبضات قلب.. ها هما يقتربانا. إنهما يقفان بالباب! الرياح هدأت.. قطرات المطر الفضية تنزلق فوق الزجاج.. يلف الظلام أبصارنا.. لم نسمع صوت الخطوات التي تقترب منا.. لم نر السيدة التي
راحت تلقي عباءتها الطيف فوق جسدينا.. أما هو،فقد راح يحتضن القنديل بكلتا يديه كي لا يسقط.
قال: «انظري! إنهما نائمان؛ الحب يرتسم على ثغریهما الباسمين».
دنيا مصباحهما الفضي منا.. انحنيا فوقنا قليلا، راحا يطيلان النظر إلينا ويتأملان وجهينا بعطف.. مكثا طويلا على تلك الحال.. اندفع تيار خفيف من الهواء داخل الحجرة، فراحت شعلة المصباح تنحني أمام سطوته برفق..
اندفعت من خلال النافذة حزم عريضة من ضوء القمر انتشرت فوق أرض الحجرة وجدرانها، ثم ما لبثت أن استقرت فوق الوجهين المنحنيين، الوجهين المتأملين؛ الوجهين الباحثين عن سعادتهما الغابرة في وجهي العاشقين النائمين.
راحت أركان المنزل تهمس بسرور: «هو آمن، آمن، آمن».
تنهد قائلا: لقد مضى زمن طويل.. وها قد عدت إليّ من جدید.
تمتمت قائلة: هنا.. هنا كنا ننام؛ كم جلسنا في الحديقة نقرأ الكتب؛ كم ضحكنا كم تسابقنا في دحرجة حبات التفاح في العلية. هنا أودعنا كنزنا».
ينحني الطيفان قليلا.. يبهر الضوء اللامع المنبعث من مصباحهما عيني فأفتحهما.. تهم أركان المنزل بعجلة وسرور: «هو آمن، آمن، آمن.. استيقظ من نومي مذهولة..
صرخت قائلة: يا إلهي! هل هذا هو كنزكما الفين؟ ذلك الخيط من شعاع النور القابع في شغاف القلب؟
تعليقات
إرسال تعليق