قلب الليل \ نجيب محفوظ
"على رغم التصعلك والتّسول فإنني أقف أمام الحياة مرفوع الرأس متحديًا، إذ أن الحياة لا تحترم إلا من يستهين بها."
في سرديةٍ معمّقة عن حياة جعفر الراوي ذلك العجوز الطاعن في الفقر والصعلكة والذي قصد وزارة الأوقاف ليتساءل عن إرث جده الذي وهبه قبل وفاته كوقفٍ خيري ويود جعفر أن يسترد ذلك الإرث لينقذ نفسه من البؤس والضياع تتماس سردياتٌ وفلسفات أخرى وتتقاطع مع فلسفة الراوي نفسه عن الحياة وعن الإنسان وعن الماضي الذي يُلقي بظلاله على أيامِنا الحاضرة .. يبعث نجيب محفوظ ألبير كامو في غريبه ميرسو بطل روايته الأكثر صيتاً .. يُعيد محفوظ إحياء ميرسو بطل رواية الغريب في شخصية جعفر الراوي ذلك الرجل الذي لا يختلف عن ميرسو في عبثية حياته وجريانه مع الأقدار غير عابء بشيء محتدياً ومثابراً .
" لقد مات أبي، كيف؟ ولم؟ لا أدري ."
يقول جعفر الراوي تلك الجملة في حديثه عن أبيه الذي مات وهو في عمر الخامسة .. تُحيلنا تلك الجملة إلى افتتاحية رواية الغريب حيث ميرسو يقول نفس الجملة تقريباً حينما يعلم وفاة أمه .. ولم تتمخّض عبثية جعفر في تلك الجملة فحسب بل تراءت في مطبّات عدّة في حياته .. نجده يحدثنا عن أمه فيقول أنه لم يكن يعرف اسمها وإنما عرفه صدفةً من إحدى الجارات بعد أربعة عشر عاماً من وفاتها . يُوحي حديث جعفر بلا اكتراثيةٍ تجلّت كذلك في إعلان حبّه لفتاة قروية ضارباً بعرض الحائط تهديد جده بطرده من القصر .. يضحّي جعفر بكل شيءٍ من أجل فتاةٍ لا يعلم عنها الكثير ويمضي في حياته شاعرًا ببطولته كونه الشخص الذي لم تغريه الحياة ولم تُثنيه عما يريد.
عبثية الراوي تتعرّى كذلك في ارتكابه فعل القتل حيث نراه يُقدم على طعن صديقٍ له حينما احتدم بينهما نقاشٌ فكري .. تُؤصل تلك الحادثة اللامبالاة التي تعتري شخصيتنا وتدفعها لارتكاب أبشع الأفعال دونما أي تأثير وكأنه تحت سطوةِ مخدرٍ ما .. ألا يذكرنا ذلك بما اقدم عليه ميرسو حينما قتل الشاب بخمس رصاصاتٍ ولم يُلق بالاً لذلك في محاكمته وكأنه لم يفعل شيئاً يُذكر ؟!
- " إنك مخطئ في تصورك يا جعفر، إني أرى الإنسان نوعين: إنسان إلهي وإنسان دنيوي، الإنسان الإلهي هو من يعايش الله في كل حين ولو كان قاطع طريق، والدنيوي هو من يعايش الدنيا ولوكان من رجال الدين."
لم يكن غريب كامو هو الإحالة الوحيدة التي تذكرتها عند قراءتي للرواية بل كذلك كان إنسان نيتشه الأعلى لكن بمفهومٍ ديني يسرده جد جعفر عليه حينما انتقل للعيش في قصره بعد وفاة والديه .. أصّل نيتشه لمفهوم الإنسان الأعلى على أنه انسلاخٌ من قيم مجتمعية وأخلاقية زائفة أسماها أخلاق العبيد ودعا إلى الانعتاق من أسر تلك المرويّات وتأسيس أخلاق السادة التي ترنو إلى إرادة القوة وسحق الضعف وبذلك يرتقي الإنسان إلى مرتبة الإنسان الأعلى الذي - على حد وصفه - لم يعد بحاجةٍ إلى تعاليم الإله. يري الجد بُعداً مشابهاً لكنه يستمد تأصيله من علاقة الإنسان بالله ومعايشته له؛ فلم يزدري أخلاق الوحي مثلما فعل نيتشه ولم يطالب بقيم وضعية تُغني عن ذلك وإنما وجد أن المرتبة العليا والشرف الإنساني الذي نطمح له يوجد في كنف الله وبمعيته .. أي التعلق الوثيق به وبالآخرة وأن تكون الدنيا أمراً ثانوياً في حياة الإنسان وبذلك يبلغ مرتبة الإنسان الإلهي .. يسرد الفيلسوف المتصوف محي الدين بن عربي مصطلحاً مقارباً لفلسفة الجد وهو الإنسان الكامل؛ حيث هو الإنسان الذي تظهر صورة الله على أفعاله وانفعالاته وتصرفاته أي تنعكس عليه صفات الله فيصبح إنساناً كاملاً يستمد كماله من تعاليم الوحي .
تنطلق الرواية كحديثٍ ليلي في إحدى المقاهي بين جعفر الراوي وموظف الأوقاف والذي هو من يروي القصة لكن أتت شخصية ذلك الموظف هامشية منسلبة من كل الدوافع والأبعاد وإنما هو فقط يقص علينا النقاش الذي دار بينه وبين بطلنا جعفر الراوي .. يخبرنا عما حدّثه به وعن أحداث حياته التي أخبره بشأنها .. تُرى هل يمكن للمرء منا أن يسرد سنوات عمره من الطفولة وحتى الكهولة في جلسةٍ مسائيةٍ واحدة ؟ على كلٍ تمكن الراوي من ذلك وكلما مضى في حكيه كلما تقلّص عالمه حتى نجده في ختام حديثه وحيداً شريداً يعيش في الخرابة التي استحال إليها قصر جده .. ربّما يجسّد مآل ذلك القصر رمزيةً عن حياة جعفر نفسه؛ فهو الرجل الذي أهلكته الحياة حتى صار خرباً في داخله يظن الناس أنه درويشاً أو مختلاً من هيئته الرثّة لا يعلمون ما يحويه ذلك الجسد المتداعي من آلام وأفكار ودروسٍ عن الإنسان .
تعليقات
إرسال تعليق