وحده الحاضر هو فرحنا \ بيير حدت


 


الحاضر يكفي لسعادتنا؛ لأنه الشيء الوحيد الذي ينتسب إلينا ويعتمد علينا. ومن الضروري عند الرواقيين أن نفرق بين ما يعتمد، وما لا يعتمد، علينا. الماضي لا يعتمد علينا، حيث إنه مثبت بإحكام، والمستقبل لا يعتمد علينا لأنه لم يوجد بعدُ. وحده الحاضر يعتمد علينا، ووحده، لذلك، الذي يمكن أن يكون خيرًا أو شرًّا، إذ إنه الشيء الوحيد الذي يعتمد على إرادتنا، وحيث إن الماضي والمستقبل لا يعتمدان علينا، فإنهما لا يقعان تحت مقولة الخير أو الشر الأخلاقي، ويجب من ثم أن ندرجهما تحت الأشياء اللافارقة Indifferents (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٦–٣٢). إن من إهدار الوقت أن تنشغل بما مضى منذ زمنٍ طويل، أو بما قد لا يحدث أبدًا؛ وعلينا إذن أن «نحصر الحاضر». «كل ما تتمنى يومًا بلوغه بطريقٍ ملتوٍ بوسعك الآن أن تناله إذا كنت منصفًا لنفسك، أي إذا تركت الماضي وراء ظهرك وأوكلت المستقبل للعناية، ووقفت الحاضر على التقوى والعدل» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ١٢–١).

وفي موضعٍ آخر يصف ماركوس تدريب حصر الحاضر كما يلي:

«… فإذا ما نفضت عن نفسك، أي عن عقلك، كل ما يقوله الآخرون ويفعلونه، وكل ما قلته أنت وفعلته، كل ما ينغِّصك عن المستقبل، كل ما يجلبه عليك جسدك الذي يغلفك ونفسك الذي يصاحبك على غير اختيار منك … إذا نفضت عن عقلك الموجَّه ما يرين عليه من انطباعات الحس ومن هموم الآتي والماضي … لا تبتغي إلا أن تعيش ما هو حياتك الحقة — أي الحاضر — سيكون بوسعك أن تقضي ما تبقى لك من العمر في هدوء وسكينة وسلام مع روحك الحارس.» (التأملات، ١٢–٣)


ويصف سنكا نفس التدريب كما يلي:

«شيئان عليك أن تنفضهما عنك: الخوف من المستقبل، وذكريات المتاعب الماضية؛ فهذا لم يعد يعنيك، وذاك لم يعرض لك بعدُ» (سنكا، «رسائل إلى لوسيلوس»).١١

«الحكيم يستمتع بالحاضر دون التعويل على المستقبل … متخفِّفًا من المنغصات التي تعذب العقل، لا يأمل أو يرغب في أي شيء. إنه لا يرشق نفسه في المجهول؛ لأنه سعيد بما لديه (أي بالحاضر الذي هو كل ما نملك). ولا تحسبنه قانعًا بما هو دون الكثير؛ لأن ما لديه هو كل شيء.» (سنكا، «في النعم»)


هنا نشهد نفس تحول الحاضر الذي قابلناه في الأبيقورية. يقول الرواقيون إن الحاضر هو كل شيء، والحاضر وحده هو سعادتنا. ثمة سببان لكون الحاضر كافيًا لسعادتنا: الأول أن السعادة الرواقية — شأنها شأن السعادة الأبيقورية — تامةٌ مكتملة في كل لحظة ولا تزداد بمضي الزمن. والثاني أننا نمتلك الواقع بكليته داخل اللحظة الحاضرة، وحتى الامتداد اللانهائي لا يمكن أن يمنحنا أكثر مما لدينا الآن.


السعادة — وهي عند الرواقي الفعل الأخلاقي أو الفضيلة — هي دائمًا تامةٌ مكتملة في كل لحظة من أمدها. وسعادة الحكيم الرواقي — شأن المتعة عند الحكيم الأبيقوري — كاملة، لا ينقصها شيء، تمامًا مثل دائرة، صغرت أو كبرت ستبقى دائرة. ويصدق الشيء نفسه على اللحظة المبشرة أو الملائمة، أو الفرصة المواتية: هي لحظة، كمالها لا يعتمد على مدتها بل على كيفيتها، وعلى التناغم القائم بين الموقف الخارجي للمرء وممكناته التي لديه. السعادة ليست أكثر ولا أقل من لحظة يكون فيها المرء بكليته في انسجام مع الطبيعة.


ومثلما هو الأمر مع الأبيقورية، فإن لحظة من السعادة عند الرواقيين تكافئ دهرًا. وبتعبير خريسبوس: «إذا كان لدى امرئ الحكمة للحظة، فإنه ليس أقل سعادة ممن يمتلك الحكمة دهرًا.» ويرى الرواقيون — شأنهم شأن الأبيقوريين — أننا لن نكون سعداء أبدًا ما لم نكن كذلك هنا والآن. الأمر عاجلٌ ملحٌّ؛ يجب أن نهرع، فالموت مصْلت، وكل ما يلزمنا لكي نكون سعداء هو أن «نريد» أن نكون كذلك. الماضي والمستقبل لا نفع فيهما. ما نحتاجه هو تحولٌ فوري لطريقتنا في التفكير، وفي التفكير وفقًا للحق والفعل وفقًا للعدالة، وتقبُّل ما يجري بحب ومودة. يقول ماركوس أوريليوس: «ما أيسر أن تطرد من عقلك كل انطباعٍ منغِّص أو عارض وتمحوه محوًا؛ وتنعم للتوِّ بلحظةٍ حاضرةٍ مفعمة بالراحة والسكينة» (التأملات، ٥–٢). وبعبارةٍ أخرى: إنه يكفيك أن «تريد» ذلك.


وبالنسبة للرواقيين، مثلما هو عند الأبيقوريين، فإن وشوك الموت هو الذي يمنح اللحظة الحاضرة قيمتها. «عليك أن تؤدي كل فعل كما لو كان آخر شيء تؤديه في حياتك» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٢–٥). هذا هو سر التركيز على اللحظة الحاضرة؛ علينا أن نعيرها كل جلالها وقيمتها وبهائها، لكي نكشف زيف كل ما نلهث وراءه؛ كل ما نلهث وراءه سوف يطويه الموت ويسلبه منا. علينا أن نعيش كل يوم بوعيٍ حادٍّ وانتباهٍ شديد بحيث يسعنا أن نقول لأنفسنا كل مساء: «لقد عشت، لقد حققت حياتي، وحصلت على كل ما أمكنني أن أتوقع من الحياة.» أو كما يقول سنكا: «إنه لفي سلامٍ عقلي ذلك الذي عاش حياته بأكملها في كل يوم» (سنكا، «رسائل إلى لوسيليوس»).


ها قد رأينا السبب الأول في أن الحاضر وحده كافٍ لسعادتنا؛ وهو أن اللحظة الواحدة من السعادة مكافئة لدهر بأسره منها. أما السبب الثاني فهو أننا داخل اللحظة الواحدة نملك كلية العالم. اللحظة الحاضرة هاربة — يؤكد ماركوس بقوة على هذه النقطة — ولكن حتى داخل هذه البارقة، كما يقول سنكا، (بوسعنا أن نعلن، مع الرب، أن «كل هذا ملكي»). هذه اللحظة هي نقطة اتصالنا الوحيدة مع الواقع، غير أنها تقدم لنا الواقع كله؛ وبالضبط لأنها ممر وتحول، فهي تتيح لنا أن نشارك في الحركة الكلية لحدث العالم، وفي واقع صيرورة العالم.


لكي نفهم ما سبق يجب أن نضع بالاعتبار ما يعنيه الفعل الأخلاقي والفضيلة والحكمة بالنسبة للرواقيين. للخير الرواقي (وهو الصنف الوحيد من الخير عند الرواقيين) بُعدٌ كوني؛ إنه الموالفة بين العقل الذي فينا مع العقل الذي يوجِّه الكون وينتج سلسلة العلل والمعلولات التي تكون المصير/القدر. علينا في كل لحظة أن نوالف حكمنا وفعلنا ورغباتنا مع العقل الكوني. علينا بخاصة أن نتقبل بفرح ارتباط الأحداث التي تنتج من مسار الطبيعة؛ لذا علينا في كل لحظة أن نعيد وضع أنفسنا داخل منظور العقل الكوني، لكي يصبح وعينا في كل لحظة وعيًا كونيًّا. إذا كان المرء يعيش في وفاق مع العقل الكوني فإن وعيه في كل لحظة يتمدد إلى لا نهائية الكون، ويكون العالم بأكمله ماثلًا لديه. عند الرواقي بخاصة فإن هذا أمرٌ ممكن؛ لأن ثمة امتزاجًا وتضمنًا متبادلًا لكل شيء مع كل شيءٍ آخر. لقد تحدث خريسبوس مثلًا عن قطرة النبيذ إذ تمتزج بالبحر كله، وتنتشر في العالم بأسره. «من رأى الحاضر فقد رأى الأشياء جميعًا؛ كل ما كان من الأزل، وكل ما سيكون إلى الأبد، كل الأشياء عشيرٌ واحد وصورةٌ واحدة» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٦–٣٧). وهذا يفسر الانتباه الذي نوليه لكل حدثٍ راهن ولما يحدث لنا في كل لحظة. «أيما شيء يحدث فقد كان يعدُّ لك منذ الأزل، وكان مقتضى الأسباب يغزل لك منذ الأزل خيط وجودك وخيط هذا الحدث المحدد» (التأملات، ١٠–٥).


بوسع المرء هنا أن يتحدث عن بعدٍ صوفي للرواقية، في كل آنة وكل لحظة ينبغي أن نقول «نعم» للعالم، أي لإرادة عقل العالم. يجب أن نريد ما يريده عقل العالم؛ أي اللحظة الحاضرة كما هي بالضبط. يصف بعض المتصوفة المسيحيين أيضًا حالتهم بأنها رضًا دائم بإرادة الله. ويهتف ماركوس أوريليوس من جانبه: «أقول للعالم إذن: إنني أبادلك الحب» (١٠–٢١). نحن هنا بإزاء شعورٍ عميق بالمشاركة والتوحد، بالانتساب إلى كل يتجاوز حدودنا الفردية، ويمنحنا شعورًا بالحميمية مع العالم. أما عند سنكا فإن الحكيم يغمد نفسه في كلية العالم Toti se Inserens Mundo.

ولأن الحكيم يعيش داخل وعيه بالعالم فإن العالم حاضر لديه على الدوام. وتتحلى اللحظة الحاضرة عند الرواقيين (أكثر حتى مما عند الأبيقوريين) بقيمة لا نهائية؛ فهي تضم داخلها الكون كله، وتحوي كل قيمة الوجود وثروته.


من اللافت جدًّا أن المدرستَين الرواقية والأبيقورية، المتعارضتَين للغاية فيما دون ذلك، تولي كلتاهما تركيزًا للوعي على اللحظة الحاضرة، وتجعل ذلك في القلب من طريقتها في الحياة. ولا فرق بين الموقفَين سوى أن الأبيقوري يستمتع باللحظة الحاضرة بينما الرواقي يريدها بشدة: هي عند الأول متعة Pleasure، وعند الثاني واجب Duty.

والمشهد الذي عرضناه من فاوست يردد هذه الموتيفة المزدوجة في تعبيرتَين مفتاحيتَين: «وحده الحاضر هو سعادتنا» و«الوجود واجب».


في محادثاته مع Falk كان جوته قد عرض لكائناتٍ معينة هي، بفضل ميولها الفطرية، نصف رواقية ونصف أبيقورية، وقال إنه لا يجد ما يدعو للعجب من تقبلهم للمبادئ الأساسية للمذهبين في الوقت نفسه، ولا حتى من أنهم حاولوا دمجهما معًا قدر المستطاع. وإن للمرء أن يقول إن جوته نفسه، في طريقته في عيش اللحظة الحاضرة، كان أيضًا «نصف رواقي ونصف أبيقوري». لقد كان يستمتع باللحظة الحاضرة مثل الأبيقوري، ويريدها بشدة مثل الرواقي.

عند جوته نواجه مرةً أخرى معظم الثيمات التي سردناها أعلاه، وبخاصة حصْر الحاضر متبوعًا بالتمدد في كلية الكون، تلك الثيمة التي شهدناها في الأبيقورية وفي الرواقية. هنا وفق جوته إلى ذكر تقابل كان أثيرًا لديه: ذلك الذي بين «الانقباض» Systole و«الانبساط» Diastole.

لننظر أولًا وقبل كل شيء في التركيز على الحاضر وحصره. في لحظات السعادة تحدث هاتان العمليتان تلقائيًّا: «عندئذٍ لا تنظر الروح إلى الأمام ولا إلى الوراء». هذا البيت من «فاوست» يتردد في قصيدةٍ مهداة إلى Count Paar:

السعادة لا تنظر إلى الأمام ولا إلى الوراء

وهكذا تصبح اللحظة أبدية.

تُدرَك اللحظة الحاضرة على أنها نعمة أُسبغت علينا أو فرصة أُتيحت.


على أن العقل قد ينصرف أيضًا عن الماضي والمستقبل إراديًّا، لكي يستمتع على نحوٍ أكمل بالحالة الحاضرة للواقع. هذا هو موقف إجمونت Egmont جوته:

«تراني أعيش فحسب لكي أفكر حول الحياة؟ وعليَّ أن أمتنع عن الاستمتاع باللحظة الحاضرة عساني أضمن التي تليها، ثم أُهدر هذه أيضًا في المشاغل والهموم العقيمة؟ … هل تضيء لي الشمس اليوم لكي أستغرق فيما حدث بالأمس؟ أو لكي أخمن وأرتب ما لا يمكن تخمينه ولا ترتيبه؛ مصير اليوم القادم؟» (جوته، «إجمونت»)


هذا هو سر السعادة نفسه الذي صاغه جوته في «قاعدة الحياة»:


أتود أن تصوغ لك حياة هانئة؟

لا تنشغل بالماضي،

ولا تدع الغضب يتملَّكك،

ابتهج بالحاضر دون انقطاع،

لا تكره أحدًا.

والمستقبل؟ فوِّض إلى الله أمره.

هذه هي ذروة الحكمة، حكمة الطفل في «مرثاة مارينباد»:


ساعة بعد ساعة تقدَّم لنا الحياة بكرم،

لم نتعلم من أمس إلا قليلًا،

أما الغد فمعرفته محرمة تمامًا علينا،

وإذا ما خفتَ من المساء الآتي

فالشمس الغاربة ما زالت ترى ما جلب لي الفرح.

افعلْ مثلي، إذن، بحكمةٍ مبتهجة،

انظر اللحظة في عينها! لا تتوانَ!

عجلْ! أسرع لتُحيِّيها نضرًا ومحسنا

لتكن اللحظة للفعل، أو للفرح، أو للحب،

وأينما كنتَ فكنْ مثل طفل، تمامًا ودائمًا،

عندئذٍ ستكون «الكل»، ستكون شيئًا لا يُقهَر.

تتمثل «قاعدة الحياة» — تلك «الحكمة العليا» — في عدم النظر إلى الأمام ولا إلى الوراء، بل في أن يصبح المرء واعيًا بفذاذة الحاضر وقيمته التي لا تضاهى. عند جوته، إذن، نجد نفس التدريب الخاص بحصر الحاضر الذي سبق أن وجدناه في الفلسفة القديمة. غير أن هذا التدريب لا ينفصل عن تدريبٍ آخر مؤدَّاه الوعي بالثراء الداخلي للحاضر، وللكلية المتضمَّنة داخل اللحظة. وإذ يقبض المرء على اللحظة (يحصر الحاضر) لا ينكمش الوعي بل يتمدد ليملأ أبعاد العالم. فهذه الرؤية التي «تنظر إلى اللحظة في عينها» هي الرؤية النزيهة للفنان، والشاعر، والحكيم؛ الرؤية الشغوفة بالواقع من أجل ذاته.


ليس يعني الاستمتاع بالحاضر دون تفكير في الماضي أو المستقبل أن نعيش في لحظيةٍ تامة؛ بل يعني أن ننقِّي اللحظة الحاضرة من أن تنغَّص بإعادة معايشة خيبات الماضي والخوف من متاعب المستقبل، فمن شأن ذلك أن يُشتِّت انتباهنا بعيدًا عن الحاضر الذي يجب أن نركِّز عليه ونعيشه. على أننا حين نركز انتباهنا فعلًا على المستقبل نكتشف أن الحاضر نفسه يتضمن كلًّا من الماضي والمستقبل إذا ما كان عبورًا أصيلًا يؤدى فيه فعل الواقع وحركته. إنما هذا الماضي وهذا المستقبل هو ما تقبض عليه رؤية الفنان في اللحظة التي يصطفيها لكي يصفها ويعيد إنتاجها. يقول جوته إن فناني العصر القديم كانوا يعرفون كيف يختارون اللحظة «الحبلى» Pregnant المثقَلة بالمعنى، التي تسم نقطة تحول حاسمة بين الزمان والأبدية. وبتعبير جوته: مثل هذه اللحظات «ترمِّز» Symbolize ماضيًا بأكمله ومستقبلًا بأكمله.

كذلك عندما يقبض فنان على لحظة من لحظات حركةٍ راقصة فإنه يتيح لنا أن نلمح كلًّا من «القَبل» و«البَعد»: «الليونة العجيبة التي تتحرك بها الراقصة من صورة إلى أخرى، وتثير إعجابنا تجاه هذه البراعة الفنية؛ إنها تثبت لحظة بحيث نتمكن من أن نرى الماضي والحاضر والمستقبل معًا في آنٍ، فنكون بذلك قد انتقلنا إلى حالةٍ علوية فوق-أرضية» (جوته، «رسائل إلى سيكلر»).


من يمارس فن العيش يجب أن يدرك أيضًا أن كل لحظة هي حبلى: مثقلة بالمعنى، تحتوي كلًّا من الماضي والمستقبل، الخاصَّين لا بالفرد بل أيضًا بالكون الذي هو مغمود فيه. هذا ما عناه لنا جوته في قصيدته The Testament:

دعوا العقل يكون في كل مكان،

حيث الحياة تبتهج بالحياة.

النقطة التي عندها تبتهج الحياة بالحياة ليست غير اللحظة الحاضرة. «عندئذٍ — يمضي جوته قائلًا:


يكون الماضي قد ترسخ،

ويكون الحاضر حيًّا مسبقًا،

وتكون اللحظة الأبد.»

وجوته أصرح في هذه النقطة حتى من هذا في إحدى محادثاته مع إكمان: «تشبثْ بالحاضر. كل ظرف، كل لحظة، هي ذات قيمة لا متناهية، لأنها تمثل أبدًا كاملًا.»


وقد اعتقد بعض المعلِّقين أنهم يمكن أن يفسروا تصور جوته عن اللحظة بوصفها أبدًا — بواسطة التأثير الأفلاطوني المحدَث أو التأثير «التَّقَوي» Pietistic.١٢ ومن الحق أننا نجد بالفعل داخل هذين التراثَين تمثيل الرب كحضورٍ أبدي، ولكن مثل هذا التصور لن نجده في كتابات جوته. عندما يتحدث جوته عن الأبدي في قصيدته المعنونة The Testament (العهد)، مثلًا، فإنه يتحدث عن أبدية العملية الكونية للصيرورة:

خلال جميع الأشياء، يقتفي «الأبدي» مساره …

الوجود أبدي؛ لأن القوانين

تحمي الكنوز الحية،

التي يزين بها «الكل» نفسه.

لكي نفسر فكرة جوته عن اللحظة بوصفها تمثل الأبد، ينبغي بالأحرى أن نذكر التعاليم الأبيقورية والرواقية التي تحدثتُ عنها آنفًا. تؤكد هذه التعاليم في المقام الأول أن لحظةً واحدة من الهناءة تساوي أبدًا، وأن لحظة وجود واحدة تنطوي على الأبد الكوني كله. وبتعبير جوته: اللحظة هي رمز الأبد. يعرِّف جوته الرمز على أنه «الوحي (البوح) اللحظي الحي للغيب». تنطبق فكرة «الغيبي» The Unexplorable على ما هو، عند جوته، يتعذر التعبير عنه بالاستناد إلى الطبيعة وإلى الواقع كله. إن طبيعتها العابرة والزائلة نفسها هي ما يجعل اللحظة رمز الأبد؛ لأن طبيعتها الزائلة تكشف الحركة الأبدية والتحول (الميتامورفوزس) الأبدي الذي هو في الوقت نفسه الحضور الأبدي للوجود: «كل ما هو زائل هو مجرد رمز» (جوته، فاوست).

وها هنا يأتي دور فكرة الموت، فالحياة نفسها تحوُّلٌ دائم، وموتٌ متصل لكل لحظة. وأحيانًا تأخذ هذه الثيمة عند جوته نبرةً صوفية:


«لكي يجد نفسه في اللامتناهي،

يقبل الفرد، طوعًا، أن يفنى،

إنها لمتعة أن يهجر المرء نفسه.»

«كل ثنائي للمخلوق الذي يتوق إلى الموت في اللهب.»

في التحليل الأخير، إذن، فإن الأبدية — أي كلية الوجود — هي التي تمنح اللحظة الحاضرة قيمتها، ومعناها، وخصبها. «ما دام الأبدي حاضرًا لنا في كل لحظة، فإننا لا نعاني من انفلات الزمن.» وهكذا فإن المعنى النهائي لموقف جوته تجاه الحاضر هو، مثلما كان للفلسفة القديمة، السعادة والواجب؛ واجب الوجود في الكون. إنه شعورٌ عميق بالمشاركة في، والتوحد مع، واقعٍ يعلو على حدود الفرد. «عظيم» هو فرح الوجود، ولكن أعظم منه الفرح الذي نحسه في حضور العالم. «خلال الأشياء جميعًا، يقتفي الأبدي مساره. اقبض على «الوجود» بابتهاج».


وينبغي هنا أن نورد الأغنية الكاملة لحارس البرج لينكيوس قرب نهاية «فاوست الثاني»:


في جميع الأشياء، أرى

الزينة الأبدية،

ولأنها تبهجني،

فأنا أبهج نفسي أيضًا،

أنتما، يا عينيَّ

أيًّا ما كان ما قد رأيتماه،

أيًّا ما كان،

فقد كان بالتأكيد جميلًا.

وفي عمله عن فينكلمان يضع جوته هذا التصديق الدهش على الوجود — على وجود الكون بأسره — بوصفه طابع النفس القديمة.


إذا كان الإنسان يحس بالارتياح في العالم باعتباره في كلٍّ، كلٍّ عظيم وجميل ونبيل ونفيس؛ إذا كانت متعة العيش في هارمونية مع هذا الكل تمنحه بهجةً مجانيةً خالصة، إذن فالعالم — إذا أمكنه أن يعي ذاته — حقيق أن يُزدَهَى بالفرح. سيكون قد نال بغيته، وسيكون مشدوهًا في هذه الذروة من صيرورته ووجوده. إذ ما جدوى كل هذا الفيض المسرف من الشموس، بعد كل شيء، وكل هذه الكواكب والأقمار والنجوم والمجرات والمذنبات والسُّدُم، ما جدوى العوالم التي في طور التكوين وتلك التي تكوَّنت، ما الجدوى، وقد قيل كل شيء وعُمل، إذا لم يبتهج إنسانٌ سعيدٌ واحد، لا شعوريًّا، بوجوده الخاص؟ (جوته، «فينكلمان»)


عندما يقول جوته «لا شعوريًّا» فإنه يعني أن الأسباب التي تفسر لماذا يكون الناس، أحيانًا، سعداء، ولماذا يكونون، أحيانًا، متناغمين مع العالم، هي أسبابٌ غير معلومة، وغير مفهومة تمامًا من جانبهم. وهنا نصادف حالةً أخرى من «الغيبي» The Unexplorable، باستخدام واحد من تعبيرات جوته الأثيرة. غير أن الفرح البريء بالوجود، والمتعة الفورية التلقائية التي تجدها الكائنات الحية في الوجود، هي ظاهرةٌ أصيلة تكشف وجود سرٍّ غيبي: «الطفل مسرور بالكعكة، دون أن يعرف أي شيء عن الحلواني؛ والزرازير تحب الكرز، دون أن تتوقف لتفكر من أين أتى.»

ومرةً ثانية نجد هذه اﻟ «نعم!» للعالم والتصديق على الوجود في الفقرة التالية من نيتشه، أيًّا ما كانت له هو نفسه من تحفظات حولها:

«لنفترضْ أننا نقول «نعم!» للحظةٍ فذةٍ واحدة: لقد قلنا إذن نعم لا لأنفسنا فحسب، بل للوجود كله. فليس ثمة شيءٌ منعزل، لا في أنفسنا ولا في الأشياء. وإذا ما حدث، ولو مرةً واحدة، أن روحنا اهتزت ورنَّت كالوتر بسعادة، فإن الأزل كله كان ضروريًّا لخلق الشروط اللازمة لهذا الحدث الواحد؛ والأزل كله قد كان مصدَّقًا، ومحرَّرًا Redeemed، ومبرَّرًا، ومؤكَّدًا.» (نيتشه، «متفرقات منشورة بعد وفاته»)

منذ زمنٍ غير بعيد، أعلن جورج فريدمان، بشجاعة، شجبه لانعدام التوازن المؤسف الذي حلَّ بالعالم الحديث؛ بين «القوة» و«الحكمة». وإذا كنا قد اخترنا هنا أن نقدم بعض جوانب ثيمة من الثيمات الأساسية للتراث الروحي الأوروبي، فلم يكن ذلك لإشباع فضولٍ ما تاريخي أو أدبي، بل لوصف موقفٍ روحي؛ موقف بالنسبة لنا وللإنسان الحديث بعامة (وقد خدَّرتنا اللغة، والصور، والمعلومات، وخرافة المستقبل) بدا لنا أنه يقدم واحدة من أفضل وسائل الولوج إلى هذه الحكمة، التي أُسيء فهمها كثيرًا رغم ضرورتها الشديدة. إن نداء سقراط يهيب بنا الآن أكثر من أي وقت مضى: «اعتنِ بنفسك.» هذا النداء يجد صدًى له في ملاحظة نيتشه: «أليس صحيحًا أن النظم البشرية جميعًا (التي نضيف إليها: «والحياة الحديثة برمَّتها») — قد وُضعت بقصد أن تمنع الجنس البشري من الشعور بحياتهم، وذلك من خلال التشتيت المستمر والدائم لأفكارهم؟» (نيتشه، «تأملات لغير زمنها»).

من كتاب: 

الفلسفة طريقة حياة : التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش