الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل
شكل الملل مصدر قلق للكتاب والشعراء و الفلاسفة و علماء النفس، بحيث لم يعرفوا كيفية شرح هذا الشعور الزئبقي الذي يستعصي على التحليل والتفكير العقلاني. فهو على حد قول فرناندو بيسو "إحساس كالسبات، يحتل مثل الضباب كل ساعة روحنا. لا يدعنا نفكر ولا يدعنا نعمل، ولعله لا يسمح لنا بالوجود"، و"ضباب صامت" بالنسبة إلى هايدغر، أو "توق دفين من دون هدف معين" على حد قول شوبنهاور، أو "جذر كل الشرور" بحسب كيركغارد، أو "قلق يرقاني وفراغ مغذ" بحسب إميل سيوران، و"الحالة الطبيعية للإنسان" كما يقول بليز باسكال، أو "حالة مزعجة تعترينا حين لا نجد ما يلبي شعور الإثارة" كما ذكر عالم النفس نيل بيرتون.
قد يكون شوبنهاور أول فيلسوف غربي أخذ المَلَل على محمل الجد باعتباره من المآسي الأساسية للبشرية، وعرّفه بوضوح بأنه "توق دفين من دون أي هدف معيَّن"، حيث يرى أن حياة الإنسان ، وحتى الحيوان "تتأرجح مثل البندول بين الألم والملل"، الألم و الملل، بحسب شوبنهاور، هما المكونان الرئيسان للوجود ، و عزا المصدر الحقيقي للملل إلى "اللهاث المستمر خلف الإثارة، من أجل الحصول على ذريعة لإعطاء العقل شيئاً يشغله"، انبثاق شعورنا بالملل، كما يراه شوبنهاور، دليل على اللامعنى، إنّه تعريةٌ لمشاعر مزعجة نحاول أن نواريها غالبًا خلف أنشطة مؤقتة أو مشاعر مُضادّة.
بينما عكس رؤية شوبنهاور التشاؤمية، يفقد الملل عند الفيلسوف مارتن هايدغر صفة المعاناة، ليصبح مرادفاً لتجربة أساسية تلقي ضوءاً ساطعاً على الوجود، الملل إحدى وسائل الدخول في شراكة مع تكاملية الوجود غايتها تحقيق الوعي بالذات الذي تطمح إليه الكينونة، والذي لا يمكن للإنسان تحصيله ما لم يختبر القلق والملل.
فبدل تجنب أو محاولة التخلص من الملل، ربما يكون الخيار الأمثل هو الإصغاء إليه والترحيب به، "التصالح مع الملل علامة على التحرر" على حد قول الدوس هكسلي. لأنه يمكن للملل أن يعمل كمحفِّز نفسي نحن بحاجة إليه، ويمكنه أن يهيئ الفرصة لقدوم لحظة إبداعية مضيئة ننتظر مجيئها منذ فترة، لأنه كما يقول فريدريك نيتشه: "إن الذي يحصِّن نفسه تماماً ضد الملل يحصِّن نفسه ضد نفسه أيضاً. إنه لن يشرب أبداً إكسيراً أقوى من نبعه الداخلي الخاص".
فإذن التصالح مع الملل أمر مهم للإبداع لأن حالة التدفق تحدث عندما تكون أدمغتنا تكون في أعلى مستوياتها من الشرود و الأسترخاء.
تقول مانوش زوموردي في كتابها (ضجِر و ألمعي) أن "حالة الملل هي بوابة شرود الذهن و بالتالي تساعد أدمغتنا على تكوين روابط عصبية جديدة تساعدنا على حل المشاكل من ترتيب عشاء بسيط إلى إبتكار حلول الإحتباس الحراري"
أما الدكتورة هيذر لينش، الأستاذة في "جامعة تكساس إيه آند إم: "إن كون الملل تجربة يومية يشير إلى أنه يجب أن يقدِّم لنا شيئاً مفيداً"، و تضيف لينش "إن الملل يشجِّع عقولنا على الشرود ويدفعنا إلى محاولة البحث عن أهداف جديدة أو استكشاف مناطق أو أفكار جديدة. وهذا ما يجب على الملل أن يقوم به بالتحديد."
و في نفس السياق يقول جون إيستوود، الأستاذ في "جامعة يورك" الذي شارك في كتاب (خارج جمجمتي): "إن الملل ليس في حد ذاته إبداعاً، ولكن يمكنه أن يكون مصدراً للإبداع. فعندما نشعر بالملل نكون في حالة غير مريحة ويكون لدينا الدافع إلى البحث عن شيء آخر. وهنا، في هذا الدافع، توجد فرصة حقيقية لاكتشاف شيء جديد".
تعليقات
إرسال تعليق