عالم كافكا هو نفس عالمنا \ روجيه جارودي
عالم كافكا هو نفس عالمنا
والعالم الذي عاشه هو نفس العالم الذي بناه. إنه عالم خانق، مجرد من الإنسانية، عالم الغربة. على أنه يعي هذه الغربة، كما يحدوه أمل لا ينتهي، حتى إننا نرى من خلال ذلك الكون الذي تتنازعه الروائع وروح المرح، قبسًا من النور أو مخرجًا.
ويكفينا لكي نعيش بكل جوارحنا تلك الوحدةَ الحية العميقة؛ ألا نضل في متاهات التفسيرات التي تميل دائمًا إلى حشر الأعمال الخلاقة في إطار نظام عقائدي محدد من قبل، ولا يعتبر تلك الأعمال إلا إخراجًا رومانتيكيًّا لفكرة.
وقد قدم علماء اللاهوت عدة نماذج لهذا التفسير الصارم؛ فمنهم من تصور أنه وجد في كافكا آخر أنبياء إسرائيل، ومنهم من تعرف في شخصه على تمزقات روح تسعى إلى الخلاص، فأرادوا أن يقودوه إلى الهداية، ومنهم من اتخذه واحدًا من أتباع كارل بارت، ومنهم من سلك أدبه في اللاهوتية السلبية.
وفي الطرف النقيض ظهرت التفسيرات التي تدَّعي التمسك بالماركسية، وترى في كافكا إما برجوازيًّا صغيرًا مترديًا في تشاؤمية ناخرة كالسوس، وإما رجل الثورة، إن لم يكن رجل الاشتراكية.
وأرادت الوجودية هي أيضًا أن تُدخِل كافكا في نطاق الجهود العبثية لسيزيف، وفي إطار القلق الطاغي عند هيدجر. أما أخصائيو التحليل النفسي فقد أغرتهم «رسالة إلى الأب»، فاعتقدوا أنهم اكتشفوا في شخصه نموذجًا مثاليًّا لعقدة أوديب. وخاض الطب أيضًا في المعمعة، فلم يتردد البعض في العثور على تفسير حاسم ونهائي لرواية «التحول» أو لرواية «المحاكمة»، اللتين كتبهما في عامَي ١٩١٣م و١٩١٤م، من خلال مرض الدرن الرئوي الذي لم يصَب به إلا في عام ١٩١٧م. وبقدر ما لم تعد عظمة أعمال كافكا موضع أخذ وردٍّ، بقدر ما تعددت التفسيرات والتأويلات المنسوجة حولها.
وهكذا ينتاب المرء عند التعرض لأعمال كافكا نفس شعور بطل قصته المعنونة «الأحراش المتأججة»؛ إذ يقول: «وقعت في أحراش معقدة متشابكة، لا مخرج منها … كنت أتجول في هدوء وأنا مستغرق في التفكير، وإذا بي أقع فجأة، فتحاصرني الأحراش من كل جانب. لقد سقطت في أسرها وضعت.»
ويقول له الحارس: «يا بني، لقد بدأت تسلك الطريق المحظور، فتوغلت في هذه الأحراش البشعة، ثم ها أنت تشكو. ومع ذلك، فإنك لست في غابة موحشة، بل في حديقة عامة. سنخرجك من المأزق، ولكن عليك بالصبر، يجب أن أبحث أولًا عن عمال يشقون لك طريقًا، ثم إنه لا بد أن أحصل قبل ذلك على تصريح من المدير.»
والسمة المشتركة بين كل تفسيرات أعمال كافكا، على تعددها واختلافها هي محاولة التوصل إلى «مفتاح» لها من خلال رواياته، سواء كان هذا المفتاح عقيدة لاهوتية أو لاوعيًا اجتماعيًّا أو نفسيًّا، أو برنامجًا ثوريًّا، أو أعراضًا مرضية معقدة.
ولا يعني ذلك أن هذه التفسيرات جميعًا لا تستفيد من جزء من الحقيقة، على أن الحقيقة نفسها سرعان ما تنقلب خطأ عندما تحول التفسيرات ما قد يكون عاملًا مساعدًا إلى منهج شامل لتفهُّم كل أعماله.
ولا نزاع في أن أعمال كافكا تتضمن وقفات دينية. ولا شك أن وضعه الطبقي ساهم في الحد من أفقه، ومن المؤكد أيضًا أننا لا نستطيع أن نقول إن إحساسه بالوجود ليس قريبًا إلى إحساس كيركجارد والجيل الثاني من الوجوديين.
على أن أعماله لا يمكن أن تكون مجرد تعبير مصور لهذا الرأي أو ذاك؛ فالرواية أو الملحمة ليست فكرة مجردة مغلفة ومزينة بالكنايات.
إنها أسطورة موحية، أي صورة للحياة، تضم السماء والأرض في وحدة واحدة، صورة للحياة بكل أبعادها؛ الأسرة والمهنة، الزواج والدين، المدينة بمتاهات آلاتها ومكاتبها، بأوهامها ومؤسساتها الراسخة، بروائعها الإبداعية وبعاداتها اليومية.
وعالم كافكا من نفس نسيج حياته، وهو على حد قوله: «ليس سيرة ذاتية، بل بحث واكتشاف لعناصر مختزلة إلى أقصى حد ممكن. وسأبني حياتي فيما بعد على هذه العناصر، تمامًا كما يحاول الرجل الذي أصبح بيته متداعيًا أن يبني بيتًا آخر بجواره، مستخدمًا بقدر الإمكان الخامات القديمة. غير أنه من المؤسف حقًّا أن تخونه قواه أثناء البناء فيصبح لديه، بدلًا من البيت الآيل للسقوط والقائم بطوله، بيت نصف قائم وآخر نصف مبني، أي لا شيء على الإطلاق. أما ما يتلو ذلك فهو الجنون الصرف، أي شيء أشبه برقصة القوقازي بين البيتين، تلك الرقصة التي يحفر بها القوقازي الأرض بكعبَي حذائه حتى يسوي لنفسه قبرًا تحت قدميه.»
أن تكون مادة العمل الأدبي والحياة شيئًا واحدًا، فهذا أمر مسلَّم به يتضح لنا من خلال الإحساس الملحِّ بمدينة براغ في «وصف المعركة»، ومن خلال العلاقات الحميمة بين «خطاب إلى الأب» وبين جو «الحكم» و«التحول» وبين «القلعة» وخطاباته إلى ميلينا.
ويغرق الإنسان في أنحاء هذا العالم، فيَتيه في اللاإنساني، ويُدمج في تروس آلة حاسمة كل ما فيها محسوب ومدروس.
وفي هذا العالم المجرد من أي تعريف به، والمنظم في تسلسل هرمي للمراتب الاجتماعية، يعيش الإنسان مسلوبًا من مزاياه الفردية، ويتحول إلى مجرد أداة خيالية بائسة، عارية من مقومات الشخصية. ذلك هو عالم رأس المال الذي يتكشف بجلاء طابعه اللاإنساني من خلال النظم البالية الطاحنة التي تقوم عليها الإمبراطورية النمساوية المجرية المحتضَرة.
على أن الالتحام بين الإبداع الشعري والحياة لا ينشأ فقط من كون العنصرين من المادة الأولى نفسها، بل ينشأ عن توليدهما وتعبيرهما عن نفس ردود الأفعال. فعندما يخوض المرء معركة لا يعرف نتيجتها، فإنه يواجه مجتمعًا يطرح قضية الخاص والعام بشكل مؤلم. كان كافكا يجاهد من أجل تحديد مكانه في هذا الكون، ومن أجل إدراكه في شموله، ومن أجل اكتشاف مغزى الحياة والتعرف على دوره كحامل رسالة مزود ﺑ «توكيل لم يعطه له أحد».
وهكذا تتداخل وتترادف وتتصادم لحظتا التمرد والإيمان، ولحظتا السخرية والتساؤل.
وعالم كافكا، أي العالم المحيط به وعالمه الداخلي، ليسا سوى عالم واحد. وعندما يكلمنا عن عالم آخر، فهو يحرص دائمًا على أن نفهم في الوقت نفسه أن ذلك العالم الآخر يوجد في عالمنا، بل إنه عالمنا نفسه؛ ذلك أن عالم الإنسان يشمل أيضًا كل ما يتحداه وكل ما نفتقده فيه.
ونفى العالم لحظة من لحظات العالم، وكافكا نفسه من عناصر هذا النفي. وهو يقول بهذا الصدد: «لقد تحملت بكل قوة سلبية العصر الذي أعيش فيه، وهو أقرب العصور إليَّ، وكان الأجدر بي أن أضطلع بمهمة تمثيله لا بمهمة محاربته. أنا لم أورث منه لا الإيجابية الهزيلة ولا السلبية المتطرفة التي تتحول إلى إيجابية … فأنا لست سوى بداية أو نهاية.»
وكافكا ليس يائسًا، ولكنه شاهد على عصره، وهو ليس ثوريًّا، ولكنه يفتح العيون.
وتعبر أعماله الأدبية عن موقفة من العالم. وهي ليست مجرد صورة منقولة ومتواكلة، كما أنها ليست نبوءة تسرف في الخيال. ولا تريد أعماله أن تقدم تفسيرًا للعالم، كما لا تريد أيضًا أن تغيره، إنها تكتفي بالإفصاح عن قصوره، وتدعو إلى تخطيه وتجاوزه.
يدور الحوار التالي بين كافكا والقارئ في «كراساته»:
– «تقادُم هذا العالم هو السمة الحاسمة المميزة له … وإذا أردتُ أن أحاربه فعليَّ أن أوجه هجومي ضد سمته الحاسمة، أي ضد تقادمه. وهل أستطيع أن أفعل ذلك في هذه الحياة؟ وهل أستطيع ذلك حقًّا بالاعتماد على أسلحة الإيمان والأمل فقط؟»
ويرد كافكا: أنت تريد إذن أن تحارب العالم بأسلحةٍ أفعلَ من الأمل والإيمان؟! هذا النوع من الأسلحة موجود ولا شك، ولكن التعرف عليه واستخدامه لا يتم إلا وفقًا لشروط معينة، وأريد أن أعرف أولًا إذا كانت هذه الشروط متوفرة فيك.
فيقول القارئ: أنا لا أملكها، ولكن ربما استطعت الحصول عليها.
ويجيب كافكا: بالطبع، ولكني لا أستطيع أن أسدي إليك مساعدة في هذا الشأن.
ويسأله القارئ: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تريد إذن أن تضعني أولًا موضع الاختبار؟
وهنا يقول كافكا: لا لأبين لك ما تفتقر إليه، ولكن لأوضح لك أنك تفتقر إلى شيء.
ولكي ينجز كافكا هذه المهمة فقد أقام عالمًا آخر، يصور حقيقة عالمنا؛ ذلك لأنه يحمل في ذاته نقيضه، ويكشف لنا بغموض وإلحاح عن تجرده العميق من الإنسانية.
إنه كفاح ضد الغربة، في صميم الغربة نفسها. وبعبارة أخرى توضح رأي سبينوزا: إنه وعي بالغربة مصحوب بجهل أسبابها، ووسائل التغلب عليها.
وسنتابع الحركة الجدلية الداخلية لأعمال كافكا وحياته، من خلال تعرضنا للقضية الرئيسية، وهي قضية العلاقة بين أعمال كافكا وحياته.
وقد بدأنا انطلاقًا من وحدة عالم كافكا والعالم الواقعي. وسنتعرف من خلال وجوده، أي من خلال العالم الذي عاشه بتناقضاته، على الازدواج الجدلي لعالم الغربة أو لعالم الوعي بالغربة، أي الازدواج الجدلي لعالم «العندية» ولعالم «الكينونة»، أو عالم الإنسان المزدوج الشخصية. ويشبه كافكا بطل «المحاكمة»؛ فهو في آن واحد «المتهم» و«المفوض» و«كيانه وأملاكه ليست شيئًا واحدًا، بل شيئان، ومن يحطم ما يوجد بينهما، يحطمه بالضربة نفسها».
ويتم تجاوز هذا التناقض الأول، برفض أول وبنفي أول، يتمكن بواسطته الكائن من نشاطه في مواجهة سلبية عالم «العندية»، ولكن الذات التي تتمكن مرة أخرى من وحدتها على صعيد العالم الداخلي؛ لا تلبث أن تنتج ثنائية جديدة في هذه الوحدة. إن الوعي بالغربة والتوتر الفاجع الناتج عنه بين الذات والموضوع، بين الكينونة والعندية، له مغزًى ملتبس لا ندري؛ هل هو مغزًى ديني أو مغزًى متمرد؟
وتخطي هذا التناقض الثنائي بين التمرد والدين، يتم بخطة تتجه نحو التغلب على النزاع القائم بين التمرد والدين، وذلك بجعل الصراع في الإبداع الفني صراعًا موضوعيًّا؛ لأنه تجربة معاشة لمغزى العالم ولنواقصه في رأي الدين، ولأنه دعوة إلى تجاوزه كما ترى الثورة. ويتكشف التناقض الداخلي على صعيد هذا العالم المشيد، هو تناقض بين اللغة والأسطورة، يبث كلٌّ من وحدتهما وتعارضهما الحياة والحركة في الابداع الفني. إن مهمة كافكا النهائية هي بلوغ السمو الكامل، مما يفرض عليه أداء رسالة مستحيلة بواسطة اللغة، وهو يقول في ذلك: «أحاول دائمًا أن أوصل شيئًا غير قابل للتوصيل، وأن أشرح دائمًا ما يستعصي شرحه …»
هذا التناقض الذي لا سبيل إلى حله، والذي ينقله كافكا إلينا، هو تناقض مصيره ورسالته في الحياة: «هذا المسعى يسلك طريقًا يتعدى طاقة البشر، وكل هذا الأدب عبارة عن هجوم على الحدود المفروضة …».
تعليقات
إرسال تعليق