قِصة المِعطف لنيكولاي غوغول، في المِعطف ضاع الإنسان !
في المِعطف ضاع الإنسان !
قِصة المِعطف لنيكولاي غوغول .. هي حِكاية ذاك المِسكين المسلوب، "أكاكي أكاكيفيتش" الذي عاش في الظلّ، المُوظف الذي سُجن في زنازين الدواوين، وانحصر في زوايا السكون، لا يُفرِح إن حضر، ولا يُفتقَد إن غاب.
عمله نسخ، وعيشه نسخ، وصوته نسخ، وروحُه مسخ منزوٍ في ركن مغلوب، يسير في دربِ الحياة مُتدثرًا بذلّ الوظيفة، ومُتوسّدًا صقِيع الحاجة، يعيش على هامِش الحياة، هادئًا، خانعًا، راضيًا بكلّ ما أتته الأيّام من فُتات .. وكانت مُشكلته الوحيدة أنّ البرد في روسيا لا يُطاق، والشتاء لا يُعانَق.
يا ويحَ هذا الأكاكي ! نشأ في عالم ما عرف له قلبًا، ولا أفرد له صدرًا، وما شمّ نسيمَ الحياة يومًا، كأنّه نبتة يابسة في صخر جامِد، كان قلبُه كالماءِ الراكد، لا موج فيه ولا اضطراب، لا غضب ولا عِتاب، لا يملك من أمر دنياه إلّا معطفًا باليًا، ومن أحلامِه إلّا أملًا واهيًا في أن يقتني مِعطفًا جديدًا، يصونه من لسعاتِ الشتاء، ويُعيد له بعض كرامة بعثرها العراء .. آهٍ من أرض تضيق على الفقِير إذا أراد ستر عظم، أو وقاية جسم ! لقد جاع الأكاكي، وتجرّع مرارة الحرمان، وسار على رؤوس أصابعِه كي لا يُبلي حذاءَه، ونام على صبرٍ مُحترق، واكتسى بانتظار مُمزّق، كلّ ذلِك في سبيل مِعطف ! يا له من معطف خِيطَ بخيوط القهر، ولفّ الجسد الواهِن كما تلفّ الحياةُ آمالَ البسطاء، يا له من معطف ما كان لستر الجسد فحسب، بل لستر الكرامة التي داس عليها الزمن، وطوى ذِكراها في هوامِش الدواوين.
فلمّا اكتمل المِعطف، وانبثق على كتفيه كالفجر بعد ليلٍ طويل، تهلّل وجهُه، وارتفعت روحُه من حضيضِها، فإذا المعطف، في لحظة، ليس رداء، بل شهادة وجود، بعد أن ذاق مرارة الجُحود، واعتراف بكيان كاد أن يُمحى ..
وإذا الناس تُحيط بهِ بعد أن أحاطه النِسيان؛ وإذا الدفء يسري في عروقه، لا من صوفِه، بل من وَهم أنّه صار يُرى، لا لأنّه تغيّر، بل لأنّ ما عليه تغيّر، وكأنّه وُلِد من جديد، وبُعثت فيه رُوح الأمل بعد طول يأس.
لكنّ الوهم قصِير العُمر، ما تمّت فرحتُه، حتى سُرِق مِعطفه، وما انتعشت روحه، حتى أُطفِئت شُعلته .. ذهب إلى الشرطة، فخُذِل، وطرق الأبواب، فما فُتِحت، واستنجد بالكبراء، فما سمعوا، وصرخ، فما صدّقوه، وسعى إلى "الرجل المُهم" فما وجد عنده إلّا القسوة واللؤم.
أجابَه ذاك المُتجبّر بفظاظة، وأسقط عليه من عِبارات الإهانة ما كاد أن يجعله يَهوى على الأرض مغشيًا عليه، كان مثلما كان اللصوص قد سلبوا حُلمه ومِعطفه، بينما هو قد سلب من أكاكي المسكين كرامته وإنسانيّته، وعادَ إلى داره، لا معطف عليه، ولا كرامَة له، ولا نبضَ في صدره.
وما بقي له من نصِيب الحياة إلّا المرضُ رفيقًا، والموت مخرجًا من ضيق الدنيا إلى سعةِ القبر .. فرح كأنّه عاش ليومٍ واحد، لكنّه ما فرح حتى سُلب، وما سُلب حتى مات، ومات كما عاش؛ في صمت لا يُبكَى، ووحشة لا تُرثَى، حتى إذا أُسدِلت ستائِر الحياة على جثمانه. هبّت روحُه من قبرِها شبحًا يجوب الطرقات، يبحث عن عدالة أُهدِرت، وكرامة سُلِبت .. عاد أكاكي شبحًا، لا ليبثّ الرعب، بل ليبعث في القُلوب الوجع، يجوب شوارع بطرسبورغ، يسلب المعاطِف لا طمعًا، بل طلبًا لحقّ ضاع، وظلّ انمحى، ينتقم لا من الناس، بل من الظُلم، يطلب عدالة ما جاءت في زمانه.
وفي ليلة شديدة الظُلمة، التقى ذاك "الرجل المُهمّ" فمزّق مِعطفه كما مزّق هو كرامةَ أكاكي من قبل، فارتعدَ "الرجل المُهم" واستفاق من علوّه، كأن ضميره كان نائمًا، فأيقظه الشبح من غفلتِه.
فعلى ما يبدو أنّ "الرجل المهمّ" كان أشدّ تنكيلًا وظلمًا لذلك المسكين أكاكي ..
ما أقسى الحياة حِين تخلع عنها رداء الرحمة، وتلبس جُبّة الظُلم ! فتَسحق الضعيف، وتضرب على قلبِ بسياطِ القهر والتهمِيش، يا لظُلمِها إذا مال ميزانُها، ويا لقسوةِ الزمان إذا جار سُلطانُها !
لقد كانت "المِعطف" ناقوسًا دقّه غوغول في وجهِ العالم، يُنذر بأنّ الإنسان إذا قُهِر في صمتِه، قد يثور في موتِه، وإذا هُزمَ في دنياه، قد ينتصر في ظِلال ما بعدَ الفناء !
غوغول ما كتب عن مِعطف، بل عن كرامة تُسلب، وإنسانٍ يُداس بلا ذنب، ويُنسى بلا سبب، فإن طالب بحقّه، قُمِع، وإن سكت، اندثر، هِي صرخة حياةٍ رسمتها البيروقراطيّة بريشة باردة، وألوان باهتة
حِكاية إنسان سُلِبت إنسانيّته في عصر لا يعرف إلّا الأسماءَ والمكانة، لا ليصفَ شتاء روسيا، بل ليصرخ في وجهِ شتاء الضمير، أنّ الإنسان حين يُنسى، يُصبح الشبح أقربَ له من الحياة ! كتب عن إنسان فقدَه الجمِيع حيًا، فصاروا يهابونه ميتًا
وما أشبه صرخة غوغول بما صدحَ به الأدباء من بعدِه، مِن دوستويفسكي إلى تشِيخوف، ومن كافكا إلى أورويل، وكلّ قلمٍ ذاق مرارة الإنسان حين يُمحى صوته ويُدهس ظلّه، فكتبوه لا ليموت، بل ليبقى شاهدًا، وقنديلاً في عتمةِ الأزمنة
فلو لم يُكتب لغوغول من مِيراث الأدب إلّا "المِعطف" لكان كافيًا لأن يُكتب له الخلود بحبرٍ لا يمّحي، وذِكرٍ لا يُنسى، ومجدٍ لا يَفنى
فلا تسأل : "مَن سرقَ المِعطف؟"
بل اسأل : "مَن سرقَ الإنسان؟"
"المعطف" لنيكولاي غوغول، على الرغم من بساطة قصته الظاهرية، يحمل في طياته تلخيصًا فلسفيًا عميقًا للعديد من جوانب الوجود الإنساني والمجتمع. يمكن قراءته من عدة زوايا فلسفية:
1. الوجودية والعبث:
- لا معنى للحياة: حياة أكاكي أكاكييفيتش، بطل القصة، تجسد الوجود الروتيني الخالي من أي هدف أو طموح حقيقي. عمله كمُناسخ ممل ورتيب، وحياته الاجتماعية معدومة. لا يبدو أن هناك أي معنى جوهري لحياته قبل ظهور الرغبة في اقتناء المعطف الجديد.
- السعي العبثي للمعنى: يصبح المعطف الجديد محور وجود أكاكي، والهدف الذي يضفي معنى مؤقتًا على حياته. لكن هذا المعنى هش وسرعان ما يتبخر بفقدان المعطف، مما يكشف عن عبثية ربط السعادة والوجود بهدف مادي زائل.
- الوحدة والعزلة: يعيش أكاكي في عزلة شبه كاملة، غير مرئي تقريبًا للمجتمع. حتى زملاؤه في العمل يسخرون منه. هذه الوحدة الوجودية تبرز هشاشة الفرد في مواجهة عالم لا يبالي به.
2. النقد الاجتماعي والسياسي:
- تهميش "الرجل الصغير": تصور القصة ببراعة تهميش الأفراد ذوي الرتب المتدنية في النظام البيروقراطي الروسي. أكاكي يمثل "الرجل الصغير" المسحوق تحت وطأة نظام لا يرى فيه قيمة إنسانية.
- قوة البيروقراطية وعدم الرحمة: يواجه أكاكي لامبالاة قاسية من المسؤولين عند محاولته استعادة معطفه المسروق. هذا يكشف عن وحشية البيروقراطية وعدم اهتمامها بمعاناة الأفراد البسطاء.
- أهمية المظاهر: يصبح المعطف رمزًا للقبول الاجتماعي والاعتراف. يلاحظ أكاكي تغيرًا في معاملة الآخرين له بعد حصوله على المعطف الجديد، مما يسلط الضوء على سطحية المجتمع واهتمامه بالمظاهر الخارجية أكثر من الجوهر.
3. المادية والهوية:
- تحديد الهوية بالممتلكات: لفترة وجيزة، يبدو أن المعطف الجديد يمنح أكاكي هوية جديدة وشعورًا بالتقدير الذاتي. هذا يطرح تساؤلات حول مدى ارتباط هويتنا بالممتلكات المادية وتأثير ذلك على شعورنا بقيمتنا.
- هشاشة السعادة المادية: الفرح الذي جلبه المعطف لأكاكي كان مؤقتًا وقائمًا على شيء خارجي. فقدانه يكشف عن هشاشة السعادة التي تعتمد على الماديات.
4. الموت والذاكرة:
- غياب الأثر: حتى بعد موته، لا يبدو أن أكاكي يترك أي أثر حقيقي في العالم. موته يمر دون أن يلاحظه أحد تقريبًا، مما يعزز فكرة هامشية وجوده.
- عودة الروح المنتقمة: ظهور شبح أكاكي الذي ينتقم ويسلب معاطف الآخرين يمكن تفسيره كصرخة أخيرة من شخص لم يُسمع له في حياته. قد يمثل هذا أيضًا فكرة العدالة المؤجلة أو اللاوعي الجماعي الذي يثور ضد الظلم.
بشكل عام، "المعطف" ليس مجرد قصة عن رجل فقير ومعطف مسروق. إنها تأمل فلسفي في طبيعة الوجود الإنساني، وقسوة المجتمع، وهشاشة الهوية، والسعي العبثي للمعنى في عالم غالبًا ما يكون غير مبالٍ. تترك القصة القارئ يتساءل عن قيمة الفرد في مواجهة الأنظمة الكبيرة، وأهمية التعاطف والرحمة في عالم يسوده النفعية واللامبالاة.
تعليقات
إرسال تعليق