الغوص في فلسفة العمل والإنشغال: قراءة متعمقة لمقولتي شكري والقصيبي

 





تمثل مقولتا الكاتب المغربي محمد شكري، "على المرء أن يبقى مشغولاً للحد الذي يلهيه عن تعاسته"، والوزير والشاعر السعودي غازي القصيبي، "العمل لا يقتل مهما كان شاقاً وقاسياً، ولكن الفراغ يقتل حتى أنبل ما في الإنسان"، رؤيتين متقاربتين في ظاهرهما، لكنهما تحملان عمقاً فلسفياً يستدعي التأمل والتحليل. كلتاهما تؤكدان على أهمية الانشغال والعمل كآليات لمواجهة تحديات الوجود الإنساني، لكنهما تنطلقان من منظورين مختلفين قليلاً في تشخيص الداء وتقديم الدواء.


محمد شكري: الانشغال كآلية دفاعية ضد وعي التعاسة


يرى شكري، الذي عرف بحياة صاخبة وقاسية صورتها سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، أن الانشغال هو وسيلة للهروب من "الوعي بالتعاسة". التعاسة هنا ليست مجرد شعور عابر بالحزن، بل هي إدراك أعمق لمعاناة الوجود، للقلق الوجودي، وربما للعبثية التي قد تطغى على تفكير الإنسان إذا ما تُرك وحيداً مع أفكاره دون عمل يصرفه عنها. الانشغال عند شكري هو بمثابة "مخدر" إيجابي، درع واقٍ يحول بين الإنسان وبين الغرق في بحر سوداويته.


فلسفياً، يمكن ربط رؤية شكري بالعديد من التيارات:


الوجودية: يرى بعض الوجوديين أن الإنسان مقذوف به في عالم لا معنى له مسبقاً، وأن عليه أن يخلق معناه الخاص. الفراغ واللاجدوى هما مصدر رئيسي للقلق الوجودي. الانشغال، حتى لو كان رتيباً أو لا يبدو ذا معنى كبير في ذاته، يمكن أن يوفر إحساساً مؤقتاً بالهدف والاتجاه، مما يخفف من وطأة هذا القلق. إنه فعل "مقاومة" ضد العدم.

التحليل النفسي: قد يرى التحليل النفسي في هذا الانشغال نوعاً من "الإعلاء" (Sublimation)، حيث يتم توجيه الطاقات والدوافع التي قد تكون مدمرة أو مؤلمة (مثل مشاعر التعاسة والقلق) نحو أنشطة مقبولة اجتماعياً ومنتجة. كما يمكن أن يكون شكلاً من أشكال "الكبت" (Repression) الواعي، حيث يختار الفرد تشتيت انتباهه عن الأفكار والمشاعر المؤلمة.

فلسفة السعادة العملية: تشير بعض مدارس الفكر إلى أن السعادة ليست حالة ذهنية مجردة بقدر ما هي نتيجة للانخراط الفعال في الحياة. العمل والنشاط يوفران فرصاً للإنجاز، للتفاعل الاجتماعي، وللشعور بالكفاءة، وهي مكونات أساسية للشعور بالرضا، حتى لو لم تكن "السعادة" المطلقة هي الهدف المنشود، بل "الإلهاء" عن التعاسة.


لا يدعو شكري بالضرورة إلى عمل عظيم أو ذي معنى كوني، بل إلى أي شكل من أشكال الانشغال الذي يقي من مواجهة مباشرة ومستمرة مع الجوانب المظلمة للنفس والوجود. إنها استراتيجية بقاء، آلية تأقلم قد تكون ضرورية في عالم لا يخلو من الألم.


غازي القصيبي: العمل كحافظ للنبل الإنساني والفراغ كقاتل له


أما غازي القصيبي، الذي جمع بين العمل الحكومي والإبداع الأدبي، فيقدم رؤية أكثر تركيزاً على الأثر الإيجابي للعمل في صون جوهر الإنسان النبيل، وفي المقابل، الأثر المدمر للفراغ. العمل عند القصيبي ليس مجرد ملهاة، بل هو ضرورة للحفاظ على القيم والمثل العليا. الفراغ، في منظوره، ليس مجرد غياب للنشاط، بل هو قوة سلبية فعالة، "تقتل" أنبل ما في الإنسان.



الأخلاق العملية والأخلاق الأرسطية: يرى أرسطو أن الفضيلة تتحقق من خلال الممارسة والفعل. العمل الجاد والهادف، الذي يسعى لتحقيق غاية نبيلة، هو بحد ذاته ممارسة للفضيلة. الفراغ، على النقيض، يفتح الباب للرذائل، للكسل، للتفكير السلبي، ولانحطاط الهمة. "أنبل ما في الإنسان" قد يشير إلى الطموح، الكرامة، الإيثار، القدرة على الإبداع، وهي كلها قيم تتغذى على الفعل وتذوي في ظل الخمول.

فلسفة العمل كتحقيق للذات: يرى العديد من المفكرين أن العمل هو وسيلة أساسية لتحقيق الذات الإنسانية. من خلال العمل، يختبر الإنسان قدراته، يطور مهاراته، يترك بصمته في العالم، ويشعر بقيمته. الفراغ يحرم الإنسان من هذه الفرص، مما يؤدي إلى شعور بالضياع، بالدونية، وبفقدان المعنى، وهو ما يمكن اعتباره "قتلاً" للجوانب النبيلة في شخصيته.

النظرة الاجتماعية للعمل: في معظم المجتمعات، يُعتبر العمل قيمة عليا ومؤشراً على المسؤولية والمساهمة في الصالح العام. الفراغ، خاصة إذا طال أمده دون مبرر، قد يُنظر إليه بشكل سلبي، وقد يؤدي إلى العزلة وفقدان الاحترام الذاتي، مما يساهم في تآكل "النبل" الداخلي. القصيبي هنا يحذر من أن الفراغ ليس مجرد حالة سلبية من "اللاشيء"، بل هو عملية تدميرية نشطة للقيم الإنسانية الرفيعة.


يذهب القصيبي أبعد من شكري في تحديد خطر الفراغ؛ فبينما يرى شكري أن الانشغال يلهي عن التعاسة الشخصية، يرى القصيبي أن الفراغ يمتد ليطال ويدمر "أنبل ما في الإنسان"، أي جوهره القيمي والأخلاقي. العمل هنا ليس مجرد مسكن للألم، بل هو ضرورة للحفاظ على سلامة الروح ونبلها.



تتقاطع المقولتان في إدراكهما لأهمية النشاط الإنساني وخطورة الفراغ. كلتاهما تريان في الفعل والانشغال وسيلة لمواجهة جوانب سلبية في التجربة الإنسانية، سواء كانت التعاسة الفردية (شكري) أو تآكل القيم النبيلة (القصيبي).


ومع ذلك، يكمن الاختلاف الرئيسي في نقطة التركيز والغاية:


شكري: يركز على الجانب الدفاعي والنفسي للانشغال. الغاية هي "الإلهاء" عن وعي داخلي مؤلم بالتعاسة. العمل هنا وسيلة لتجنب الألم.

القصيبي: يركز على الجانب البنائي والأخلاقي للعمل. الغاية هي "الحفاظ" على النبل الإنساني و "تجنب" القتل المعنوي الذي يسببه الفراغ. العمل هنا وسيلة لتحقيق وصون قيمة جوهرية.


يمكن القول إن رؤية شكري تنطلق من تجربة شخصية أكثر حدة مع المعاناة، حيث يصبح الانشغال ضرورة ملحة للنجاة النفسية. أما رؤية القصيبي فتنطلق من منظور أكثر شمولية حول طبيعة الإنسان وما يصون إنسانيته الرفيعة، محذراً من أن الفراغ ليس مجرد غياب للعمل، بل هو قوة تدميرية للأخلاق والمثل.


إن الجمع بين المقولتين يقدم لنا فهماً أكثر اكتمالاً لدور العمل والانشغال في حياة الإنسان. فمن ناحية، نحتاج إلى الانشغال لكي لا نُسحق تحت وطأة إدراكنا للتعاسات المحتملة والمصاعب الوجودية، كما يذكرنا شكري. إنها استراتيجية للتكيف مع عالم قاسٍ، وللحفاظ على توازننا النفسي.


ومن ناحية أخرى، يرتقي العمل ليصبح أكثر من مجرد إلهاء، ليصبح، كما يرى القصيبي، ضرورة لصقل إنسانيتنا والحفاظ على أنبل ما فينا. الفراغ ليس مجرد ملل، بل هو تربة خصبة لنمو اليأس، واللامبالاة، وفقدان الشغف، وهي كلها عوامل تقتل الطموح والكرامة والمروءة. العمل الهادف، حتى لو كان شاقاً، يمنحنا شعوراً بالإنجاز، بالانتماء، وبالمساهمة، وهي مشاعر تغذي أرواحنا وتحفظ لها نبلها.


في نهاية المطاف، تدعونا كلتا المقولتين إلى عدم الاستسلام للسلبية أو الخمول. سواء كان الدافع هو الهروب من شبح التعاسة أو السعي للحفاظ على جوهرنا النبيل، فإن الانخراط الفعال في الحياة من خلال العمل والنشاط يظل ضرورة إنسانية لا غنى عنها. إنه ليس مجرد وسيلة لكسب العيش، بل هو أيضاً وسيلة لعيش الحياة نفسها بكامل أبعادها النفسية والأخلاقية والوجودية، وللتصدي لما قد يهدد سلامنا الداخلي وقيمنا الإنسانية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دفاعا عن الجنون \ ممدوح عدوان

معضلة القطار...علم الأخلاق

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

السمان والخريف \ نجيب محفوظ

معضلة القنفذ \ ‏Hedgehog's dilemma

الوجود مُعاناة

المرأة والعاطفة الشخصية

معضلة سفينة ثيسيوس

قدرة الحيوانات البرية على التعافي من الصدمات بشكل طبيعي بينما يعلق البشر غالبًا في دوامة الصدمات النفسية

رجل في الوسط \ أحمد خالد توفيق