"Everything Everywhere All at Once"رحلة فلسفية عميقة تستكشف أسئلة الوجود والمعنى في عالم فوضوي
فيلم "Everything Everywhere All at Once" ليس مجرد فيلم خيال علمي وحركة، بل هو رحلة فلسفية عميقة تستكشف أسئلة الوجود والمعنى في عالم فوضوي. يستخدم الفيلم فكرة الأكوان المتعددة كمسرح لعرض وتحدي العديد من الأفكار الفلسفية.
1. العدمية (Nihilism)
شرح الفكرة: العدمية هي وجهة نظر فلسفية ترى أن الحياة بطبيعتها خالية من أي معنى أو قيمة أو هدف جوهري. إنها فكرة أن كل ما نؤمن به (الأخلاق، المعرفة، الحب) هو في النهاية بناء اجتماعي لا أساس له في الواقع، وبالتالي، لا شيء يهم حقًا.
كيف ظهرت في الفيلم؟
تتجسد العدمية بشكل صارخ في شخصية "جوبو توباكي" (Jobu Tupaki)، وهي النسخة الشريرة من "جوي" ابنة "إيفلين". بعد أن تعرضت لتجربة رؤية كل الأكوان الممكنة في وقت واحد، أدركت جوبو أن كل خيار يؤدي إلى كون جديد، وأن كل إنجاز أو فشل في كون ما هو تافه مقارنة باللانهائية من الاحتمالات الأخرى. استنتاجُها كان: "لا شيء يهم".
رمزها الأقوى هو "خبزة البيغل السوداء" (The Everything Bagel) التي صنعتها. هذه الخبزة ليست مجرد سلاح، بل هي تجسيد للعدمية؛ فهي تحتوي على "كل شيء" (Everything)، وعندما تضع كل شيء في مكان واحد، فإن كل هذه الأشياء تلغي بعضها البعض، وتنهار تحت وطأة ثقلها، لتتحول إلى ثقب أسود يمثل الفراغ واللاشيء المطلق. هدفها النهائي هو أن تجد شخصًا (والدتها) يفهم هذا الفراغ معها، لتضع حدًا لوجودها الذي لا معنى له.
الفيلسوف والآراء المختلفة:
فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche): هو أشهر فيلسوف ارتبط بالعدمية. لم يكن نيتشه عدميًا، بل كان يشخّص العدمية باعتبارها "مرض" العصر الحديث القادم. تنبأ بأن موت الإله (أي تآكل الإيمان الديني والأسس الأخلاقية التقليدية) سيؤدي إلى فراغ هائل وشعور بالضياع والعدمية. رأى نيتشه أن العدمية يمكن أن تكون مدمرة (سلبية)، ولكنها أيضًا قد تكون فرصة (إيجابية) لـ "الإنسان المتفوق" (Übermensch) ليخلق قيمه ومعانيه الخاصة بعيدًا عن أي سلطة خارجية.
وجهة نظر الفيلم: يعرض الفيلم الجانب المدمر للعدمية من خلال جوبو توباكي، لكنه في النهاية يرفضها ويتبنى رؤية تشبه دعوة نيتشه لتجاوز العدمية عبر خلق المعنى.
سؤال للتفكير:
إذا كانت هناك احتمالات لا نهائية لكل قرار نتخذه، فهل يفقد أي قرار فردي قيمته حقًا، أم أن هذا يمنحنا الحرية المطلقة لتقدير اللحظة الحالية التي نعيشها؟
2. العبثية (Absurdism)
شرح الفكرة: العبثية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوجودية، هي فلسفة ترى أن هناك صراعًا جوهريًا بين ميل الإنسان للبحث عن معنى وقيمة في الحياة، وعجز الكون عن توفير هذا المعنى. الكون صامت، وغير عقلاني، ولا يبالي بوجودنا. العبث هو هذا الصدام بين بحثنا اليائس عن النظام والمنطق في عالم لا يملك أيًا منهما.
كيف ظهرت في الفيلم؟
الفيلم كله عبارة عن احتفال بالعبثية. عالم الفيلم فوضوي بشكل مضحك ومربك: كون فيه أصابع الناس من النقانق، كون آخر نتحول فيه إلى صخور صامتة، شخصيات تقاتل باستخدام حيوانات الراكون أو جوائز مدببة. هذا الجنون يعكس الطبيعة العبثية للوجود. "إيفلين" في بداية الفيلم تعيش حياة عبثية؛ فهي غارقة في تفاصيل حياتها اليومية المملة (الضرائب، إدارة المغسلة، علاقاتها الفاشلة) وتبحث عن معنى أكبر لكنها لا تجده، مما يخلق لديها شعورًا بالإحباط والضياع.
ألبير كامو (Albert Camus): هو رائد الفلسفة العبثية. يرى كامو أن هناك ثلاث استجابات ممكنة للعبث:
الانتحار: الهروب من العبث بإنهاء الحياة (وهو ما يرفضه كامو).
القفزة الإيمانية (Leap of Faith): الهروب من العبث باللجوء إلى معتقدات دينية أو أيديولوجية تتجاوز العقل (وهو ما يعتبره كامو "انتحارًا فلسفيًا").
التمرد والقبول (Rebellion and Acceptance): أن نعيش متمردين على العبث، بأن نعترف به ونحتضنه ونعيش حياتنا بشغف وحرية على الرغم من غياب المعنى الجوهري. البطل العبثي عند كامو هو "سيزيف" الذي يُحكم عليه بدحرجة صخرة إلى قمة جبل لتعود وتتدحرج إلى الأبد. سعادة سيزيف تكمن في تمرده وإدراكه لمصيره وقبوله له.
وجهة نظر الفيلم: "إيفلين" في النهاية تصبح بطلة عبثية. هي لا تهرب من الفوضى، بل تتعلم كيف تقفز بين العوالم العبثية وتستخدمها لصالحها. هي تتقبل أن الحياة فوضوية ولا معنى لها مسبقًا، لكنها تجد القوة في هذا القبول. مشهد الصخور الصامتة هو تجسيد مثالي لفكر كامو؛ حتى في أكثر المواقف عبثيةً وعدمًا، يمكن إيجاد اتصال ولحظة من الصفاء.
سؤال للتفكير:
هل يمكن أن يكون الجنون والفوضى والضحك استجابة أكثر قوة وصحة لغياب المعنى في الحياة من اليأس أو البحث الجاد عن إجابات نهائية؟
3. الوجودية (Existentialism)
شرح الفكرة: الوجودية هي فلسفة تؤكد على حرية الفرد ومسؤوليته في تحديد جوهره ومعنى حياته. شعارها الأساسي هو "الوجود يسبق الماهية" (Existence precedes essence)، مما يعني أن الإنسان يولد أولاً (يوجد) بدون أي هدف أو طبيعة محددة مسبقًا، ثم من خلال خياراته وأفعاله، يقوم بتشكيل هويته وماهيته. نحن محكومون بالحرية، وبالتالي، مسؤولون بالكامل عن خلق قيمنا الخاصة.
كيف ظهرت في الفيلم؟
رحلة "إيفلين" هي رحلة وجودية بامتياز. في البداية، تُعرّف نفسها من خلال إخفاقاتها وما كان يمكن أن تكونه (نجمة سينما، طاهية، خبيرة كونغ فو). هي ترى نفسها كحصيلة لخياراتها السيئة. لكن من خلال "القفز بين الأكوان" (Verse-Jumping)، تكتشف أنها ليست نسخة فاشلة واحدة، بل هي مجموع كل الاحتمالات الممكنة.
هذا الإدراك يمنحها القوة. هي ليست مجرد صاحبة مغسلة، بل هي كل هؤلاء الأشخاص في آن واحد. الفيلم يخبرنا أنها ليست بحاجة لاختيار نسخة واحدة ناجحة لتكون ذات قيمة. قيمتها الحقيقية تأتي من قدرتها على اتخاذ خيار جديد في اللحظة الحالية. عندما تقرر محاربة العدمية باللطف، وتختار إصلاح علاقتها بزوجها وابنتها، هي بذلك تخلق معناها الخاص. إنها ترفض ماهيتها المحددة مسبقًا (فاشلة) وتصنع ماهية جديدة (المقاتلة اللطيفة، الأم، الزوجة).
جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre): هو أبرز فلاسفة الوجودية. أكد سارتر على فكرة "الحرية الجذرية" والمسؤولية المطلقة. رأى أننا "محكومون بأن نكون أحرارًا"، وأن إنكار هذه الحرية والمسؤولية هو شكل من أشكال "النية السيئة" (Bad Faith).
ألبير كامو (الذي يُصنف أحيانًا كوجودي): بينما يتفق مع سارتر على الحرية، يركز كامو أكثر على التمرد ضد العبث، بينما يركز سارتر أكثر على عملية خلق الذات من خلال الاختيار.
وجهة نظر الفيلم: يجمع الفيلم بين أفكار سارتر وكامو. "إيفلين" تمارس حريتها الجذرية (سارتر) لتحديد هويتها، وفي نفس الوقت، تمردها هذا هو استجابتها لعالم عبثي (كامو).
سؤال للتفكير:
إذا كانت هويتنا تتشكل بالكامل من خلال خياراتنا، فهل هذا يعني أننا لسنا "أنفسنا" حقًا، بل نحن في حالة تغير دائم ومسؤولية لا تنتهي؟
4. الطاوية والتفاؤل العبثي (Taoism & Optimistic Absurdism)
شرح الفكرة: الطاوية هي فلسفة صينية قديمة تركز على العيش في وئام مع "التاو" (Tao)، وهو المبدأ الطبيعي والنظام الكامن وراء الكون. تدعو الطاوية إلى مفاهيم مثل "وو وي" (Wu Wei)، والذي يُترجم غالبًا إلى "الفعل دون جهد" أو "العمل السلِس"، ويعني التصرف بتلقائية وبشكل طبيعي متناغم مع تدفق الحياة، بدلاً من مقاومته أو فرض إرادتنا عليه. كما تؤمن بتكامل الأضداد (يين ويانغ).
كيف ظهرت في الفيلم؟
إذا كانت جوبو توباكي تمثل العدمية، فإن "وايموند" (Waymond) زوج "إيفلين" هو تجسيد للفلسفة الطاوية. فلسفته بسيطة لكنها عميقة: "كن لطيفًا" (Be kind). في عالم مليء بالفوضى والعنف، يختار وايموند اللطف والتعاطف كطريقته في القتال. هذا ليس ضعفًا، بل هو شكل من أشكال "وو وي". إنه لا يقاوم الفوضى بالقوة الغاشمة، بل يتحرك معها، ويجد القوة في القبول والرحمة.
في النهاية، تتبنى "إيفلين" هذه الفلسفة. طريقتها لهزيمة جوبو توباكي ليست بقتلها، بل بفهم ألمها واحتضانه. قوتها المطلقة لا تأتي من إتقان الكونغ فو، بل من قدرتها على رؤية الخير في الجميع وإظهار التعاطف. هذا هو الحل الذي يقدمه الفيلم للعدمية والعبثية: ليس إنكار الفراغ، بل ملؤه بالحب والاتصال الإنساني. هذا المزيج من قبول العبث مع اختيار اللطف يخلق ما يمكن تسميته "بالتفاؤل العبثي".
لاوتزه (Laozi): هو الشخصية الأسطورية التي يُنسب إليها كتاب "تاو تي تشينغ" (Tao Te Ching)، النص الأساسي للطاوية. يعلّم لاوتزه أن القوة الحقيقية تكمن في الليونة والمرونة، مثل الماء الذي يتشكل حسب الإناء الذي يوضع فيه ولكنه قادر على نحت الصخور الصلبة.
وجهة نظر الفيلم: أسلوب وايموند القتالي الذي يبدو سخيفًا في البداية (باستخدام حقيبة خصر) هو تجسيد مثالي لمبدأ الليونة الطاوي. انتصار إيفلين النهائي هو انتصار لفلسفة التناغم والقبول على فلسفة الصراع والرفض.
سؤال للتفكير:
في مواجهة مشاكل الحياة المعقدة والساحقة، هل يمكن أن يكون اللطف والقبول استراتيجية أكثر فعالية وقوة من المواجهة المباشرة والمقاومة؟
تعليقات
إرسال تعليق