باروخ سبينوزا أحد كبار الفلاسفة على مر التاريخ
" ...والواقع أن سبينوزا يحتل مكانة أساسية وفريدة من نوعها في تاريخ الفكر الأوروبي وربما البشري بشكل عام . فهو شخص منبوذ على كافة الأصعدة والمستويات . إنه منبوذ كيهودي يعيش في مجتمع مسيحي كان الدين يحتل فيه أهمية قصوى في القرن السابع عشر . وهو منبوذ من قبل اليهود أنفسهم لأنه انقطع عن الصلاة في الكنيس أو في المعبد بعد أن فقد إيمانه بالعقائد الدينية والطقوس والشعائر وعمره لا يتجاوز العشرين إلا قليلا . وهو منبوذ حتى بين الفلاسفة الذين يدارون رجال الدين ظاهرياً , وبالتالي فلا يجرأون على التقرب منه إلا من بعيد البعيد . بل وكانوا يهاجمونه لكي يحظوا برضى الأرثوذكسية والأصولية أو يتقوا شرهما على الأقل . وكان منبوذاً حتى على مستوى عائلته الشخصية التي رفضته وحرمته من الإرث الأبوي بعد أن أدانه حاخامات اليهود . كان سبينوزا منبوذا بشكل كوني . كان رجلاً حراً أو يشعر بعطش هائل إلى الحرية . لكن لنتوقف قليلاً هنا عند الإدانة اللاهوتية التي أصابته في عز الشباب وحسمت مصيره الفلسفي .
في 27 يوليو من عام 1656 م , صدرت الفتوى اللاهوتية التالية عن الكنيس اليهودي في أمستردام : ( منذ بعض الوقت وأقطاب الطائفة يسمعون بالأفكار السيئة التي يتبناها سبينوزا . وقد حاولوا جاهدين , وبكل الوسائل , أن يحولوه عن هذا الخط السيء . ولكن عبثاً . ففي كل يوم نتلقى فيه أخباراً جديدة عن الهرطقات المرعبة التي ينادي بها ويعلِّمها . وقد أوصل لنا شهود عديدون وموثوقون أخباره التي لا تحتمل الشك والتي تدل على أنه مذنب ومنحرف فعلاً . وبعد أن أخذ أقطاب الطائفة رأي السادة الحاخامات قررنا فصل هذا الرجل من أمة بني إسرائيل . وصدرت في حقه الإدانة التالية : باسم الملائكة والقديسين فإننا نفصل ونلعن هذا الشخص المدعو سبينوزا . إننا نصب عليه كل اللعنات اللاهوتية الموجودة في الشريعة . ليكن ملعوناً في النهار , وملعوناً في الليل . ليكن ملعوناً عندما ينام , وملعوناً عندما يستيقظ . ليكن ملعوناً في الدخول والخروج . لعنه الله لعنة أبدية سرمدية لا تحول ولا تزول إلى أبد الآبدين . وليصب الله عليه جام غضبه وليحرمه من عفوه وغفرانه ... وإننا لنخبر الجميع بأنه ممنوع على أي شخص أن يتحدث معه شفاهاً أو يراسله كتابة . وممنوع على أي شخص أن يقيم معه أي علاقة أو يقدم له أي معونة . وممنوع على أي شخص أن يسكن معه تحت نفس السقف , وأن يقرأ له أي مقالة أو كتاب ).
بعد أن صدرت الفتوى بوقت قصير هجم عليه أحد المتعصبين اليهود وحاول اغتياله بضربة خنجر . ولكن لحسن الحظ فإن سبينوزا كان يلبس معطفاً سميكاً فلم تصل الضربة إلى اللحم , أو قل إنها خدشته خدشاً بسيطاً . ويقال بأن سبينوزا ظل محتفظاً بذلك المعطف " المقدس " لسنوات طويلة . وذلك لكي يتذكر أن ثمن الفكر غال ولا يمكن أن يتركه الناس يمر دون عقاب . في الواقع إن محاولة الاغتيال كانت متوقعة بعد صدور الفتوى اللاهوتية . فالفتوى تمثل اغتيالاً معنوياً أو روحياً , وبالتالي فهي ليست إلا المقدمة التمهيدية للاغتيال الجسدي . بدءاً من تلك اللحظة أصبح سبينوزا عدواً لدوداً لكل الأصوليين , ليس فقط في عصره وإنما في جميع العصور . وكما ذكرنا سابقاً فقد ترك مدينة أمستردام مباشرة على إثر محاولة الاغتيال هذه ولجأ عند أصدقائه من المسيحيين الليبراليين في مكان آخر من هولاندا ( لييد Leyde) . ولكنه لم يصبح مسيحياً . فهو لم يغير دينه لكي يعتنق ديناً آخر . وحده دين الفلسفة والفكر العقلاني الحرّ كان يهمه . ولكن بالطبع فإن المتدينين العقلانيين كانوا أقرب إلى قلبه , وهم الذين حموه أكثر من مرة واحتضنوه . وبما أنه لم يتزوج ولم ينجب أطفالاً فإنه كان يكفيه مبلغ قليل من المال لكي يعيش . وكما يقول جيل دولوز فإن حياة التواضع والفقر والعفَّة هي الأكثر مناسبة للفلسفة . فالفلسفة لا تزدهر إلا أدرت ظهرك لهذا العالم واحتقرت شهواته ومتعه ومقاماته وتشريفاته . وقد رفض سبينوزا كل النجاحات الأرضية لكي يحظى بنجاح واحد : حياة الخلود في الفلسفة . كان يلزمه جرح عميق لكي يصبح فيلسوفاً حقيقياً , فجاءته فتوى الفصل من الطائفة وضربة الخنجر لكي يتحقق له ما أراد . لم يعرف التاريخ مفكراً حقيقياً أو فيلسوفا كبيراً خلواً من أزمة شخصية أو مشكلة عميقة . وسبينوزا ليس استثناء على القاعدة ولن يكون . الباقون هم دارسون أكاديميون أو متبحرون في العلم , ليس إلا . أما المفكر العميق فيلزمه جرح نازف أو ضربة صاعقة تهزُّ كيانه من الأساس . وسبينوزا كان من هؤلاء . ونستغرب كيف استطاع أن يصبح أحد كبار فلاسفة التاريخ في عمر قصير جداً (عاش 45 سنة)
في الواقع إن سبينوزا لم يشأ مصيره هذا على هذا النحو ولم يختره . ولكنه تحمل مسؤوليته باعتباره قدراً محتوماً لا فكاك منه . لقد كان قدره أن ينفصل عن كل جماعة سواء أكانت دينية أم عرقية أم عائلية ... بقي فقط متعلقاً بجماعة واحدة : هي جماعة المواطنين الهولنديين الأحرار التي كانت في طور الانبثاق آنذاك . لكأن سبينوزا الذي سبق عصره بوقت طويل كان يقول لهم : اعتبروني إنساناً , اعتبروني مواطناً عادياً ولا تنظروا إلى أصلي وفصلي , أو إلى ديني ومذهبي . فأنا إنسان قبل كل شيء , ولم أختر هذا الدين ولا ذاك عندما ولدت فيه . لم يخيّرني أحد لكي أولد في عائلة يهودية , أو في عائلة مسيحية , في عائلة كاثوليكية , أو في عائلة بروتستانتية . وبالتالي حاسبوا الناس على مواطنيّتهم وعلى أفعالهم , أي على شيء لهم حق الخيار والتقرير فيه . هكذا استبق سبينوزا أفكار الحداثة والعلمانية وحق المواطنية ودولة القانون بسنوات ضوئية . إنه أول فيلسوف علماني في التاريخ . ولذلك كانت غربته شبه مطلقة في عصره , وكانت وحدته مريرة وقاتلة . ولم يكن له عزاء إلا الفلسفة .
ممَّ كان يعتاش سبينوزا ؟يقال بأنه احترف مهنة صقل النظارات وبرع فيها . وهذا صحيح . ولكنه لم يعش منها إلا قليلاً . في الواقع إن الأصدقاء والمعجبين بعبقريته الفلسفية هم الذين ساعدوه وصرفوا عليه . وقد رفض الأعطيات والأموال من مصادر عديدة ولكنه قبلها من صديق ثري يدعى سيمون دوفري De vries Simon . يضاف إلى ذلك أن زعيم هولندا آنذاك , يان دوفيت (De witt ) , كان جمهورياً ويحب أفكاره . فخصص له راتباً سنوياً متواضعاً . ولكن بما أن قليل القليل كان يكفيه , فلم تكن مشكلة بقائه على قيد الحياة صعبة جداً . فصحيح أنه كان يلبس ثياباً نظيفة جداً , لكنها كانت بسيطة غاية البساطة . وكان يقول : لماذا نهتم باللباس والمظاهر أكثر مما يجب ؟ لماذا نغلِّف هذا الجسد الفاني بغلاف ثمين ؟ فاللباس البراق لا يصنع الرجال . كان هناك مجال واحد يصرف عليه سبينوزا كل شيء هو : الكتب . والواقع أنه خلّف وراءه مكتبة كبيرة ومنتقاة "
- من كتاب (مدخل إلى التنوير الأوروبي) للمفكر هاشم صالح ص : 191و 192.
- الصورة لتمثال سبينوزا في لاهاي بهولندا.
تعليقات
إرسال تعليق