موت سقراط



من أغرب الأشياء أن العمل القاسي الوحيد الذي ارتكبته الديمقراطية بعد عودتها، قد ارتكبته مع فيلسوف طاعن في السن تحول سنوه السبعون بينه وبين القيام بأي عمل يضر الدولة. ولكن كان بين زعماء الحزب المنتصر أنيتوس الذي هدد قبل عدة سنين من ذلك الوقت بأن ينتقم لنفسه من سقراط لبعض إهانات لحقته من جدله، ولأن الفيلسوف "أفسد" ابنه. وكان أنيتوس هذا رجلاً صالحاً، حارب ببسالة تحت إمرة ثرازيبولس، وأنقذ حياة بعض من أسرهم جنوده من الألجركيين. وكانت له يد في إصدار العفو العام؛ وسمح للذين ابتاعوا أملاكهم، بعد أن صادر الثلاثون الأملاك، أن يستبقوها لأنفسهم لا ينازعهم فيها منازع. ولكنه لم يحتفظ بهذه الصفات الكريمة في معاملته لسقراط. فهو لم ينس أن ابنه بقي مع سقراط وصار سكيراً عربيداً بعد أن ذهب هو إلى منفاه ؛ وبدا له أن تأثير سقراط في الأخلاق وفي السياسة أسوأ من تأثير أي سوفسطائي آخر، وأنه يقوض دعائم العقيدة الدينية التي كانت تستند إليها الأخلاق، وأن انتقاداته الدائمة كانت تضعف إيمان الأثينيين المتعلمين في الأنظمة الديمقراطية . وبدا لأنيتوس أن من الخير أن يخرج سقراط من أثينة أو أن يموت. موت سقراط ووجَّه الاتهام للفيلسوف في عام 339 ق.م وكان نصه: "أن سقراط مذنب عام لأنه لا يعترف بالآلهة التي تعترف بها الدولة، بل يدخل فيها كائنات شيطانية" ؛ "وأنه مذنب كذلك لأنه أفسد الشباب" . وجرت المحاكمة أمام محكمة شعبية مؤلفة من حوالي خمسمائة من المواطنين معظمهم ممن لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم. وليس لدينا وسيلة نعرف بها ما في رواية أفلاطون وأكسانوفون الخاصة بدفاع سقراط عن نفسه من دقة؛ وكل ما نعرفه محققاً أن أفلاطون شهد المحاكمة بنفسه ، و يقول إن سقراط قد أكد أنه يؤمن بألوهية الشمس والقمر نفسيهما. "تقولون أولاً إني لا أؤمن بالآلهة ثم تقولون بعدئذ إني أومن بأنصاف الآلهة...إن مثلكم في هذا كمثل من يؤكد وجود البغال ثم ينكر وجود الخيل والحمير". ثم أشار سقراط وهو مكتئب حزين إلى ما كان لهجاء أرسطوفان من أثر فعّال: "لقد اتهمني كثيرون، اتهموني في الزمن القديم، وظلت تهمهم الكاذبة تطاردني كثيراً من السنين؛ وأنا أخشاهم أكثر مما أخشى أنيتوس ورفاقه...لأنهم بدءوا يتهمونني وأنتم أطفال، واستحوذوا بأكاذيبهم على عقولكم، إذ حدثوكم عن شخص يسمى سقراط، وهو رجل حكيم، يفكر في السموات العلا، ويفحص عن الأرض من تحتنا، ويجعل أسوأ الأسباب تبدو للعين كأنها أحسنها. أولئك هم المتهمون الذين أخشى بأسهم، لأنهم هم الذين ينشرون هذه الشائعة، وسرعان ما يخيل إلى المستمعين إليهم أن من يفكر هذا التفكير لا يؤمن بالآلهة. وما أكثر هؤلاء، وما أقدم التهم التي يوجهونها إليَّ، وقد كانوا يوجهونها أثناء طفولتكم التي ينطبع فيها كل شيء قوياً في عقولكم، أو لعلهم وجهوها إليَّ في أثناء شبابكم، وسواء كان هذا أو ذاك فإن التهمة إذا وجهت ولم تجد من يفندها ثبتت في العقول. وأصعب ما في الأمر كله أني لا أستطيع ذكر أسمائهم لأني أجهلها، اللهم إلا اسم واحد عرفته مصادفة وهو شاعر هزلي...تلك هي حقيقة التهم الموجهة إلي، وهذا هو الذي رأيتموه بأعينكم في مسلاة أرسطوفان. وهو يقول إنه مكلف برسالة إلهية هي أن يهدي الناس إلى الحياة الصالحة البسيطة، وإنه لن يمتنع عن إبلاغ الناس هذه الرسالة أياً كان ما يهدد به: "ولو فعلت لكان مسلكي عجيباً بحق. أي رجال أثينة، إذا كنت وأنا تحت إمرة القواد الذين اخترتموهم رؤساء عليَّ في بوتيديا،قد ثبتُّ حيث أمروني بالثبات، وواجهت الموت كما واجهه كل رجل آخر - وإذا كنت الآن، وأنا أعتقد وأتصور أن اللّه يأمرني بأن أؤدي رسالة الفيلسوف فأفحص عن نفسي وعن غيري من الناس، إذا كنت أنا أتخلى عن مهمتي خشية الموت...، وإذا ما قلتم لي: يا سقراط إنا سنعفو عنك الآن ولا نشترط عليك إلا أن تكف من هذه الساعة عن البحث والتفكير على هذا النحو...أجبتكم: أي رجال أثينة، إني أجلكم وأحبكم، ولكني سأطيع اللّه ولا أطيعكم، ولن أمتنع، ما دمت حياً وما دامت لدي قوة، عن ممارسة الفلسفة أو تعليمها للناس، أعظ كل من ألقاه على طريقتي الخاصة، وأقنعه، وأقول له: أي صديقي، لم تعنى كل هذه العناية كلها بادخار أكبر قدر مستطاع من المال والشرف والسمعة الطيبة ولا تدخر إلا النزر اليسير من الحكمة والحقيقة وأنت مواطن في مدينة أثينة العظيمة، القوية، الحكيمة؟ وأهيب بكم يا رجال أثينة أن تفعلوا ما يأمركم به أنيتوس، برئوني أو لا تبرئوني، ولكن أياً كان ما تفعلونه بي، فلتعلموا أني لن أبدل طرائقي، ولو مت مرات كثيرة. ويبدو أن القضاة قد قاطعوه عند هذه النقطة، وأمروه ألا يسترسل فيما بدا لهم أنه وقاحة، ولكنه واصل دفاعه بكبرياء أشد من ذي قبل: أحب أن تعرفوا أنكم إذا قتلتم رجلاً مثلي، أسأتم إلى أنفسكم أكثر مما تسيئون إليَّ...لأنكم إن قتلتموني لن يسهل عليكم أن تجدوا رجلاً آخر مثلي، فأنا، إذا سمح لي أن ألجأ إلى هذا التشبيه المضحك السخيف، كذبابة بعثها اللّه إلى الدولة، والدولة شبيهة بجواد عظيم كريم، بطيء الحركة لضخامة جسمه، في حاجة إلى ما يبث فيه الحياة...وإذ كنتم لن تجدوا غيري رجلاً مثلي، فإني أنصحكم أن تبقوا عليًّ. وصدر الحكم بإدانته بأغلبية ضئيلة لا تزيد على ستين صوتاً، ولو أن دفاعه كان أقل حدة وأكثر استرضاء للقضاة لكان من الجائز أن يبرأ. وكان من حقه أن يقترح عقاباً آخر بدل الإعدام، ولكنه أبى في أول الأمر أن يطلب هذا الطلب؛ فلما ألح عليه أفلاطون وغيره من الأصدقاء، عرض أن يؤدي غرامة قدرها مائة مينا . وضمنه أفلاطون وهؤلاء الأصدقاء في تعهده. فلما أخذ الرأي للمرة الثانية زاد عدد أصوات الذين حكموا بإعدامه ثمانين صوتاً على عددهم في المرة الأولى. وقد كان في استطاعته بعدئذ أن يفر من السجن، وقد مهد له أقريطون وغيره من الأصدقاء (إذا جاز لنا أن نصدق أفلاطون) بالرشا سبيل الفرار ، والرجح أن أنيتوس كان يأمل أن ينتهي الأمر على هذا النحو. ولكن سقراط بقى كما هو إلى آخر يوم في حياته. فقد كان يحس أنه لن تطول حياته أكثر من بضع سنين وأنه "لن يلقى عن كاهله إلا أبهظ جزء من الحياة؛ وهو الجزء الذي يشعر فيه الناس كلهم أن قواهم العقلية آخذة في النقصان" . لهذا لم يقبل اقتراح أقريطون، بل أخذ يبحثه من وجهة النظر الأخلاقية، ويناقشه على الطريقة الجدلية، ويطبق عليه المنطق إلى النهاية. ولم ينقطع تلاميذه عن زيارته في سجنه كل يوم خلال الشهر الذي انقضى بين إدانته وتنفيذ الحكم فيه، ويبدو أنه ظل يتحدث إليهم وهو هادئ حتى الساعة الأخيرة من حياته. ويحدثنا أفلاطون أنه أخذ يعبث بشعر فيدون ويقول: "يخيل إليَّ يا فيدون أن هذه الغدائر الجميلة ستقص غداً" - حزناً عليَّ. وجاءته زانثبي باكية وبين ذراعيها أصغر أطفالهما؛ فأخذ يواسيها، وطلب إلى أقريطون أن يصحبها إلى دارها. وقال له أحد تلاميذه المتحمسين: "إنك لا تستحق هذه الميتة" فأجابه سقراط بقوله: "هل تريد إذن أن أستحقها؟". ويقول ديودور الصقلي . إن الأثينيين ندموا على فعلتهم بعد موته وأعدموا من اتهموه. ويروى بلوتارخ رواية أخرى فيقول إن الشعب غضب على متهميه غضباً بلغ من شدته إنهم لم يجدوا مواطناً يوقد لهم النار، أو يجيب لهم عن سؤال، أو يستحم في ماء استحموا هم فيه، فلم يسعهم آخر الأمر إلا أن يقتلوا أنفسهم . ويروي ديوجانس أن تمثالاً من البرونز أقيم في أثينة تخليداً لذكرى الفيلسوف . ولكنا لا نعرف ما في هذه القصص من الصدق أو الكذب . وانتهى العصر الذهبي بموت سقراط. فقد خارت قوى أثينة المادية والمعنوية؛ ولم يكن ثمة ما يستطاع به تعليل القسوة المتناهية التي عاملت بها ميلوس، والحكم الوحشي الذي أصدرته على متليني، وإعدام قواد أرجنوسي، والتضحية بسقراط على مذبح الدين المحتضر، لم يكن ثمة ما يستطاع به تعليل هذا كله إلا ما أصاب الأخلاق فيها من تدهور بسبب الحروب الطوال التي خاضت غمارها وما جرته على أهلها من عذاب وآلام. لقد تصدعت جميع الدعائم التي تستند إليها الحياة الاثينية: فأقفرت تربة أتكا من جراء الغارات الإسبارطية، وأحرقت أشجار الزيتون البطيئة النمو، ودمر الأسطول الأثيني فلم تستطع أثينة بعد تدميره أن تسيطر على الطرق التجارية وتضمن ما يلزمها من الطعام؛ وأقفرت خزائنها من المال، وفرض على الثروات الخاصة من الضرائب الباهظة ما كاد يذهب بها كلها؛ وقتل نحو ثلثي مواطنيها. وكان ما أصاب بلاد اليونان من الضرر بسبب غزوة الفرس أقل مما أصابها بسبب حروب البلوبونيز. لقد تركت موقعتا سلاميس وبلاتيا بلاد اليونان فقيرة ولكنها مرفوعة الرأس تملأ نفوس أهلها العزة وتعمر قلوبهم الشجاعة، أما الآن فقد افتقرت بلاد اليونان مرة أخرى، وأثخنت أثينة بجراح في روحها مستنسرة لا يرجى لها برء. ولم يكن يحفظ عليها حياتها إلا شيئان: عودة الديمقراطية على أيدي رجال من ذوي الحكمة والاعتدال، وشعورها بأنها في خلال الستين سنة الأخيرة، وحتى في خلال الحرب نفسها، قد أخرجت إلى العالم فناً وأدباً لا يدانيهما نتاج أي عصر آخر في تاريخ البشر. نعم إن أنكساغورس قد نفي، وأن سقراط قد أعدم، ولكن القوة التي بعثاها في الفلسفة كانت تكفي لأن تجعل أثينة من ذلك الحين، وعلى الرغم منها، مركز التفكير اليوناني الذي بلغ فيها ذروته. فقد نضجت فيها تلك الآراء التي كانت من قبل أفكاراً تجريبية لم تتشكل بعد وأضحت نظماً عظيمة مستقرة ظلت مصدر الحركة في الحياة الفكرية الأوربية عدة قرون؛ وحلت محل نظم التربية العالية المضطربة التي لا تخضع لقاعدة والتي كان يتولى أمرها السوفسطائيون، حلت محلها أولى الجامعات التي عرفها التاريخ - وهي الجامعات التي جعلت أثينة في مستقبل الأيام "مدرسة هلاس" كما تعجل وسماها سيديدز قبل اكتمالها. ولم تقض الحروب وما أريق فيها من دماء وما أحدثته من فوضى واضطراب على مقومات الفن وتقاليده قضاءً تاماً، بل ظل المثالون والمهندسون اليونان عدة قرون بعد ذلك الوقت ينحتون ويشيدون لجميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. ولقد انتعشت أثينة من اليأس الذي دب فيها بعد هزيمتها، وعادت إليها حيويتها عوداً يثير الدهشة، فتجددت ثروتها، وثقافتها، وقوتها، وازدهر خريف حياتها وأثمر أحسن الثمار.

قصة الحضارة / ويل ديورانت / المجلد الثانى / حياة اليونان ص2448.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش