« التفكير فريضة إسلامية » للعقاد
الفلسفة بقلم عباس محمود العقاد فلسفة التاريخ، وفلسفة اللغة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الرياضة وغيرها من أنواع الفلسفة مصطلحات حديثة يراد بها البحث في النظريات والأفكار التي تقوم عليها تلك العلوم، أو البحث في النظريات والأفكار التي تفسر تلك العلوم، وتبين وجهتها وغايتها، ويراد بهذه الفلسفات — إجمالًا — أنها دراسات فكرية فرضية غير الدراسات التي تقررت بالوقائع والتجارب المحسوسة من قبيل علوم الطبيعة وما جرى مجراها … إلا أنَّ الفلسفة التي نعنيها هنا أعم من هذه الفلسفات جميعًا؛ لأنها قد تشملها من وجهة النظر في الأصول، وتجاوزها إلى البحث فيما وراء الحقائق المحسوسة، مما يسمى أحيانًا بالبحث فيما وراء الطبيعة، أو البحث في كنه الوجود كله على التعميم … ويلاحظ في التاريخ المتواتر أنَّ هذه الفلسفة العامة — فلسفة ما وراء الطبيعة — شاعت في بعض الأمم القديمة، وقل شيوعها في أمم أخرى … ويلاحظ كذلك أنَّ بلاد الدول الكبار لم تكن بيئات صالحة لنشأة هذه الفلسفة ونبوغ فلاسفتها، وأنَّ الأمر لا يرجع إلى اختلاف درجات الحضارة؛ بل إلى أسباب غير هذا السبب، كما يؤخذ من تواريخ الحضارات الأولى … فالهند ومصر وبلاد ما بين النهرين وبلاد الدولة الرومانية كانت على درجة عالية من الحضارة، وعلى حظ وافر من العلوم والصناعات، ولكنها لم تتسع لشيوع الفلسفة، كما اتسعت لها بلاد اليونان في عصر من عصورها قبيل ميلاد المسيح، وهي مع ذلك لم تبلغ من الحضارة والعلم والصناعة مبلغ البلاد التي قامت فيها الدول الكبرى، وقل فيها شيوع الفلسفة ونبوغ الفلاسفة … والباحثون الأوروبيون يحبون أن يعللوا ذلك بعلة ترضيهم، وتدل عندهم على امتياز السلالات الأوروبية بين جميع السلالات البشرية … يقولون: إنَّ طلب المعرفة لمحض المعرفة مزية من مزايا العقل الأوروبي دون غيره بين عقول الأمم من سائر الأجناس، وإنَّ الأمم من غير الأجناس الأوروبية تطلب العلم لمنفعة، وتهتم بالمعرفة لما تستفيده منها في معاشها، ولا تهتم بها لأنها مطبوعة على التفكير وطلب الحقيقة لذاتها … ودلائل العصبية العنصرية هنا ظاهرة تكفي لإخراج هذه العلة من عداد العلل العلمية الخالصة لوجه البحث والمعرفة. وقد حدث للأمم الأوروبية أنها حجرت على الفلسفة حين عرضت لها ظروف اجتماعية أو سياسية كالظروف التي سبقتها في الدول الشرقية … فالسبب العنصري هنا قاصر عن تفسير العلة في اختلاف إقبال الأمم على الفلسفة، وإنما ترجع تلك العلة إلى أسباب واحدة بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر كلما تشابهت الظروف على تباعد الأزمنة والجهات … والغالب أنَّ الدول الكبيرة، وهي الدول التي تقوم عادة على الأنهار الكبيرة، تستقر فيها سلطة دينية متوارثة كالسلطة السياسية، وأنَّ هذه السلطة الدينية تستأثر بمباحث العقيدة ومباحث ما وراء الطبيعة، ولا تسمح لأحد بأن يزاحمها في المعارف التي تتعلق بالأرباب وأسرار الخلق وأصول الحياة، أو أصول الوجود كله على التعميم. وقد وُجِدت هذه السلطة الدينية القوية في أوروبا بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد، فامتنع ظهور الفلسفة فيها، وساء حظ الفلاسفة بين علمائها ومحتكري العلم من أحبارها وكُهَّانها. وحدث قبل ميلاد السيد المسيح أنَّ عبادة الإمبراطور تقررت في الدولة الرومانية، وأنَّ الدولة عرفت سلطان الكهانة بين شعوبها؛ فامتنع فيها ظهور الفلسفة ونبوغ الفلاسفة، ولم يكن محصولها منها بأوفر من محصول الفلسفة في دول الحضارات الشرقية، وقامت الدولة الرومانية ثم سقطت وهي عالة على بقايا الفلسفة اليونانية، تأخذ منها ما يحسب من فلسفة السلوك والأخلاق، وتحجم عما عداها من أبواب الفلسفة المعنية بما وراء الطبيعة وما تخوض فيه من المشكلات والأسرار … وقد فسر الإسلام هذا الفارق بين الأمم في عنايتها العامة بالفلسفة على طريقته العملية حين قامت فيه الدولة بغير كهانة، فكانت دولة الإسلام أرحب الدول صدرًا، وأسمحها فكرًا مع الفلسفة على عمومها، والفلسفة اليونانية في جملتها؛ بل كانت الأمة الإسلامية أرحب صدرًا، وأسمح فكرًا مع الفلسفة اليونانية من بلاد العالم اليوناني الذي نشأت فيه، كما يؤخذ من مصائر الفلاسفة بين أبناء العالم اليوناني ومصائر الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين في بلاد الإسلام. كان «ثالوث» الفلسفة الأكبر يتجمع من سقراط، وأفلاطون تلميذ سقراط، وأرسطو تلميذ أفلاطون، وكان أشهر الفلاسفة بعد هذين فيثاغوراس إمام الحكمة الصوفية، وزينون إمام الفلسفة الرواقية. وكل من هؤلاء الحكماء — المعبرين عن حكمة عصورهم — قد أصيب في زمنه بمصاب لا يدل على قرار أمين … فسقراط قُضي عليه بالموت، وأفلاطون بيع في سوق العبيد، وأرسطو نجا بنفسه من أثينا خوفًا من عاقبة سقراط، بعد أن رماه كاهن من كهانها بالإلحاد، وقيل: إنه ألقى بنفسه في البحر، وزعم بعض مؤرخيه أنه لم يبخع نفسه فرارًا من الاضطهاد؛ بل غمًّا من تفسير علة المد والجزر في البحر الذي ألقى بنفسه فيه. أما فيثاغوراس فقد مات قتيلًا بجانب مزرعة فول، وبخع زينون نفسه لأن الآلهة أمرته بذلك، كما قال لبعض تلاميذه، ولا تعلم على التحقيق علاقة مصيره هذا ولا مصير فيثاغوراس بالدعوة الفلسفية، ولكنه — على أي وجه من الوجوه — مصير لا يدل كما أسلفنا على قرار أمين. ونقارن بين هذه الأحوال التي عرضت لأكبر فلاسفة اليونان وبين أحوال الفلاسفة من المسلمين من المشتغلين بالفلسفة اليونانية، وهي أجنبية في البلاد الإسلامية، فلا نرى أحدًا أصيب بمثل هذا المصاب من جراء الفلسفة أو الأفكار الفلسفية، ومن أصيب منهم يومًا بمكروه، فإنما كان مصابه من كيد السياسة، ولم يكن من حرج بالفلسفة أو حجر على الأفكار … فأشهر الفلاسفة المسلمين في المشرق ابن سينا، المُلقَّب بالشيخ الرئيس، دخل السجن؛ لأنه كان عند أمير همدان فبرم بالمقام عنده، وأراد أن يلحق بأمير أصفهان علاء الدولة ابن كاكويه، فسجنه أمير همدان ليبقيه إلى جواره، ولم يسجنه عقوبة له على رأي من آرائه. وابن رشد أشهر الفلاسفة المسلمين في المغرب أصابته النكبة؛ لأنه لقَّب الخليفة المنصور في بعض كتبه بلقب ملك البربر، وكان يصادق أخاه «أبا يحيى» ويرفع الكلفة بينه وبين الخليفة فيناديه «يا أخي» وهو في مجلسه الخاص بين وزرائه وكبرائه. ويحتاج المؤرخ في كل مصادره فكرية أو دينية — كما قلنا في تاريخ الفيلسوف١ — إلى البحث عن سببين؛ أحدهما معلن، والآخر مضمر؛ فقليلًا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرًا ما كان للنكبة غير سببها الظاهر سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان. ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد. ولقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس وكلاهما كان يتزندق، ويهرف في أمور الزندقة بما لا يعرف، ولكن بشارًا هجا الخليفة، ومطيعًا لم يقترف هذه الحماقة؛ فنجا مطيع وهلك بشار، ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين؛ فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغنِ عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب، كما تقدم، بأمر من أبي الخليفة. واشتغل بالفلسفة اليونانية غير ابن سينا وابن رشد أعلام من هذه الطبقة من طراز الكندي والفارابي والرازي، كما اشتغل بها أناس دون هذه الطبقة في الشهرة والمكانة، فلم يصب أحدهم بسوء من جراء تفكيره، ولم يصدهم أحد عن البحث والكتابة إلا أن تستدرجهم حبالة من حبائل السياسة، فينالهم منها ما ينال سائر ضحاياها، ولو لم يكن أسهم في مذاهب الفلسفة أو الدين .
تعليقات
إرسال تعليق