مفهوم " الحقيقة " في الفلسفة البراغماتية \ وليم جيمس
" كل حقيقة تقوم على توافق أفكارنا مع الواقع "، يشترك كل من الإتجاه العقلاني المذهب البراغماتي أو العملي في هذا المعيار المتداول الذي تقاس به الحقيقة، غير أن كلا المذهبين يختلفان حول دلالة مفهومي " التوافق" و " الواقع"، فالعقلانية تتبنى موقفاً حاسماً قطعياً، في حين تتخذ البراغماتية موقفاً مرِناً، فالفكرة الحقيقية في نظر العقلانيين هي تصوير للواقع كما تتجلى للذهن، لكن السؤال هل الفكر قادر على تصوير كل الأشياء الموجودة على نفس النحو؟، أمام هذا التساؤل المحرج لم تجد المثالية منفذا إلا عبر استجداء الحلول الميتافزيقية، بمعنى تطابق فكرتنا عن الشيء مع فكرة الله عنه!، بعيداً عن هذا التصور و بطرح مغاير تتساءل البرغماتية حول القيمة العملية للحقيقة، أي ما هي التجارب و الخبرات الجديدة المكتسبة التي نكتسبها عن طريق الحقيقة عوض التجارب المحصلة من قبل؟!.
تجيب البراغماتية عن هذا التساؤل، بالقول أن الأفكار لا تكون حقيقية إلا إذا سايرت و تماشت مع حاجاتنا العملية، فالحقيقة حسب المذهب البراغماتي تتلخص في عبارة وليم جيمس التالية : " إن كل ما يؤدي بنا إلى النجاح فهو حقيقي و إن كل ما يعطينا أكبر قسط من الراحة و ما هو صالح لأفكارنا و مفيد لنا بأي حال من الأحوال فهو حقيقي." و معنى هذا، أن الحقيقة هي التي تنتهي إلى نتائج مُرضية، و أن الفكرة يجب أن تُمتَحن أولا عن طريق ما يسمى ب "الإختبار العملي" أو معيار " التحقق Vérification" ، فلا قيمة للأفكار مادامت حبيسة داخل عقولنا، بل علينا إخضاعها لمبدأ التحقق حتى يتم التأكد من صحتها أو بُطلانها.
انتقد جيمس الرأي القائل أن الذهن بمثابة مرآة، يقوم بتصوير خصائص الواقع و نقلها لنا كما هي من جهة، و أن كل تطابق يتضمن فعالية إيجابية من حهة الذهن على أساس ما يتوافق مع مبدأ حفظ الحياة من جهة ثانية، و هو الرأي الذي تبناه سبِنسر Spencer، ينظر جيمس لمفهوم التطابق أو التوافق على خلاف نظرة سبنسر، فهو يعتبر أن العلاقة بين التطابق و الواقع تقوم على ثلاثة عناصر: التنظيم، العلاقات الخارجية، ثم غاية عامة كحفظ الحياة مثلاً. هدف حيمس من خلال نقده لثنائية سبنسر هو تِبيان استقلاله عن النزعة الوضعية Positivisme، بتخليص صيغة التوافق من الخصائص الفيزيائية و ردها إلى اعتبارات حيوية طبيعية كما جسدتها نظرية داروين، و التي اعتبرت أن المعيار الوحيد الذي يقاس عليه كل توافق هو معيار " حفظ الحياة".
لا بأس للإشارة هنا، أنه عادة ما يطلق على فلسفة وليم جيمس اسم "التجريبية المتطرفة "، هذا لكونها ناهضت النزعات المثالية التي دعت إلى التفكير المجرد و انقطعت صلتها بالواقع، فحيمس يقف ضد كل المذاهب التي تفسر الواثع بإرجاعه إلى مبدأ عقلي واحد، بل حسب جيمس نحن أمام ما يسميه "كون مُتكثِّر"، قوامه فكرة التغير و الصيرورة و التعدد، فالعالم في نظره عبارة عن حقيقة مرِنة غير مكتملة، حاضعة لحركة مستمرك و تغير دائم.
الحقيقة في نظر وليم جيمس هي عبارة عن حدث un évenement بالنسبة للفكرة، و أن أفكارنا تكون حقيقية إذا تمكنت من إفساح المجال أمام الفعل، فوظيفة الفكرة الحقيقية هي قيادة الفكر و العمل معاً نحو الواقع، و هو ما يطلق عليه جيمس ب "تحقّق الفكرة" ( التحقق المباشر و الغير مباشر).
إذا كان الفلاسفة القدامى (كأفلاطون) قد اعتقدوا بأن هناك عالم فوقي معقول ثابت و توجد فيه حقائق مطلقة أزلية و الحقيقة في نظرهم صادقة ما أن تتطابق مع حقائق هذا للعالم، فويلم جيمس يرى عكس ذلك، بمعنى آخر إذا كانت الفلسفة التقليدية تميل إلى جعل الحقيقة دائما تنظر إلى الخلف، فإن الفلسفة البراغماتية أو العملية تجعلها تنظر إلى الأمام، و قد لخص الفيلسوف برغسون - صاحب الإتجاه الحيوي الذي تتقاطع فلسفته مع البراغماتية - لخص وجهة نظر جيمس في الحقيقة بالعبارة التالية : بينما ترى المذاهب الأخرى أن أية حقيقة جديدة إن هي إلاّ اكتشاف Découverte، ترى الفلسفة العملية - البراغماتية - أنها اختراع Invention.
و بهذا يكون الحقيقي حسب جيمس هو المفيد لفكرنا، و الصحيح هو المفيد لسلوكنا، و المفيد لا يخضع للثبات، بل للتغير ، فالمفيد في تجاربنا الحاضرة قد لا يبقى كذلك في تجاربنا المقبلة، و معيار التحقق من قيمة الفكرة و مدى صدقها هو النظر لما تنتجه من آثار عملية من خلال مبدأ التحقق التجريبي.فالبرغماتية تلتقي مع عدة اتجاهات فلسفية، مع المذهب الإسمي في تتعلقها بالجزء، و النفعية في توكيدها على قيمة الجانب العملي، و مع الوضعية في كونها تحتقر دائماً الحلول اللفظية الميتافيزيقية المجردة ، و أيضاً تلتقي مع للمذهب الحيوي التي يمثلها برغسون، فكل من جيمس و برغسون يتفقان أننا عاجزين على فرض تصوراتنا العقلية على الواقع، لأن الواقع لا يتطابق دائماً مع تصوراتنا العقلية - الحقيقة غريبة عن العقل .
المراجع :
البراغماتية ، وليم جيمس، ترجمة محمد علي العريان.
معنى الحقيقة ، وليم جيمس ، ترجمة أحمد الأنصاري
تعليقات
إرسال تعليق