الوظيفة الوحيدة للذاكرة هي جعلنا نشعر بالندم / سيوران
لم أظل رهينا للماضي، لقد تجاوزت كل أخطاء الماضي في سبيل خطإ جديد واحد: الرفض الصارم لأي انزلاق جديد؛ حماية الوحدانية الباطنية التي اتصف بها الله كي يعطي مثالا منزها للبشر، يحذونه ولا يبلغونه قطعا.
غفرت لنفسي لأن لا أحد سيفعل ذلك لأجلي، لا القط الذي قتلت حين كنت طفلا عدوانيا يعكس طبيعة ما يحيط به، ولا أخي الميت الذي أهملته في مراهقتي ولا تلك الفتاة التي كانت ضحية شاب عادي كأي شاب آخر في الأرض لم يخط بعد خطوة حكيمة نحو فهم "جزء" من الآخر ! ويحذوني أمل سخيف بأن يكون رماد أخي والقط والفتاة قد تجاوزوا نحو مناطق شعورية/وجودية جديدة، خالية من أي بصمات لذكراي، قد يكون ذلك ممكنا بشكل من الأشكال!
لم أتحرر، لأن في التحرر معنى ساذجا يكشف عن شعور لا مفكر فيه: الشعور بأن الإنسان صار أفضل! صار أعقل، صار لوجوده "أليثيا" انكشاف ولاتحجب أو حقيقة "جوهرية"! لكني الآن بعد مرور السنوات مدرك لأنني خطوت إلى الأمام في شبه غيبوبة زمنية، مجرورا بقوة الأشياء وتدفق الأيام، إلى الأمام بمعنى مجازي، فحتى الدوران في المكان نفسه قد يكون سفرا إلى أبعد نقطة في الكون.
كل الماضي لازال لم ينجز، ذلك هو تمظهر الزمن الذي دفعني للنسيان، لقد انوجدت كائنا زمنيا، ومحاولة محاربة هذه الحقيقة والهروب منها هو ما يجعلنا عادة دراميين وغير قادرين على النسيان ويكلفنا حمل أثقال أخلاقوية هائلة، تكون ضرورية في لحظاتها، وربما في فترات لاحقة -لأنها ضريبة فهم من الأفهام - ، لكنها تصبح تمديدا لحالة من التشاؤم السيكولوجي الضعيف حين يتم تمطيطها بدافع الخوف أو الحساسية المفرطة، تلك التي تنبع عن الشعور بالتأله والكمال الزائف. يمكن فهم ذلك من خلال التماثل بين قدرة الله على عدم النسيان لأنه كامل، وحتمية نسيان الإنسان لأنه ناقص، ولذلك يخطئ، ربما لأن لله مهمة تنتظره، وهي المحاسبة على كل الجزئيات، لكن الإنسان قادر على العيش بطريقة أو بأخرى دون أن يحمل هم أي شيء، إن استطاع استغلال نقصه، أي قدرته على النسيان وتقبل حتميته للأخطاء نتيجة قصور الفهم أو انتفاء القصد، من هنا الأمل الذي يحذوني في أن يمر الآخرون الذين عرفتهم يوما ما على كل أخطائي وينسون وجودي في الماضي..
لقد كان سؤالي دائما كأي ضحية لوعي أخلاقي زائف: هل يمكن أن يمضي الآخرون في طريقهم مثلما كان "مقدرا" لهم قبل أن أرتكب خطأ ما في حقهم؟ سؤال عن أثر الفراشة.. لكنه سؤال زائف، لأنه يلغي كون الآخرين بشرا يقودون وعيهم وتمثلاتهم حسب إراداتهم/ رغباتهم، بشر لهم أخطاؤهم أيضا..
"يخيل لي أن الأدوار تابثة والممثلون يتغيرون"، ذلك سبب آخر لنبرر لأنفسنا ضرورة ألا نبقى حمالين في أسواق الماضي، نتكلف أثقالا لا فائدة ترجى منها لأي كان، كل كيان يشري هو ضحية وجلاد في فترات متفاوتة من حياته، وأن يصير محايدا في هذه اللعبة هدف صعب المنال، لم يكن ليتحقق دون تلك الأخطاء، التي تعتبر إرثا ضروريا في بناء الحياد الإيجابي: التخلص الجزئي من تحكم العواطف والرغبات -والأهم- الذكريات، بحيث تصير تابعة للوعي لا قائدة له، بحيث يصير الفعل الآني، سواء عن عقل أو نزوة مفهومة، هو كل ما يهم.
إذا أضيف إلى ذلك أنه ليس إلها ولا كائنا لازمنيا، فقد يغفر الإنسان لنفسه غفرانا مشروطا بعدم التكرار، بمحاولة التحكم في إرادته الدفينة عبر توجيهها بالحكمة.
لذلك لا فائدة من الندم، الذي يصدر عن الذاكرة* إلا إذا كان منصة للانطلاق نحو التصحيح الأخلاقي الوحيد الممكن: الانسحاب من كل أشكال التورط التي تجعل الندم ممكنا في ما بعد. وبالرغم من شبه استحالة هذه المهمة، إلا أنها تظل هدفا مثاليا لكل شخص يروم السعادة الأرضية المنشودة (سعادة الحكيم).
تعليقات
إرسال تعليق