لودفيغ فتغنشتاين يعيد إلى اليقين اعتباره الفلسفي


 لم ينشر الفيلسوف النمساوي الشهير لودفيغ فتغنشتاين (1889 – 1951) في حياته سوى كتاب "رسالة منطقة فلسفية"، بالإضافة إلى مقال "بعض ملاحظات على الصور المنطقية". ويقول في مقدمة هذا الكتاب إنه لن يفهمه "إلا أولئك الذين طرأت لهم الأفكار نفسها الواردة فيه، أو طرأت لهم على الأقل أفكار شبيهة بها، ولذا فهو ليس كتاباً مدرسياً، وإنه يحقق الغاية منه لو أنه أمتع قارئاً واحداً قرأه وفهمه".

كان لديه تصور بأن أفكاره قد أسيء فهمها إلى حد كبير. وبعد وفاته توالى صدور كتبه المخطوطة من قبل تلاميذه، وأغلبها لم يترجم إلى العربية حتى الآن. كما أنها قليلة هي الكتب العربية التي تناولت شرح فلسفته، وأقدمها أنجزه عزمي إسلام ضمن سلسلة "نوابغ الفكر الغربي" (دار المعارف) بعنوان "لودفيغ فتغنشتاين"؛ وهو خلاصة أطروحته للدكتوراه التي نوقشت في كلية الآداب بجامعة عين شمس في عام 1966، وأشرف عليها زكي نجيب محمود.

وترجم عزمي إسلام لفتغنشتاين كتابي "رسالة منطقية فلسفية"، و"بحوث فلسفية". وهناك أيضاً لجمال حمود كتاب يتناول فلسفة فتغنشتاين في جانبها اللغوي، عنوانه "فلسفة اللغة عند لودفيغ فتغشتاين".

الكتاب الأخير

ومن أشهر كتب فتغنشتاين، وأهمها، كتاب "تحقيقات فلسفية"، ترجمة عبدالرازق بنور، وكتاب "في الأخلاق والدين والسحر"، ترجمة حسن أحجيج. أما الكتاب الأحدث، في إطار ترجمة أعمال هذا المفكر إلى العربية، فصدر أخيراً عن دار "الرافدين" بعنوان "في اليقين"، ترجمة مروان محمود، ويعد آخر ما كتب فتغنشتاين، وفيه عبارات خطها وهو على فراش مرضه الأخير، وآخرها الفقرة 676 في 27 أبريل (نيسان) 1951، أي قبل وفاته بيومين، وقد ودع العالم وهو يقول لزوجته: "أخبريهم بأنني قد حظيت بحياة رائعة".

ظهر كتاب "في اليقين" للمرة الأولى عام 1969، ويتمتع بأسلوب الفقرات القصيرة، كأنها ملاحظات. ويشير مترجم الكتاب إلى اختلاف الآراء حول اعتبار "في اليقين" عملاً مكتملاً أم لا، واصفاً صاحبه بأنه "أعظم فيلسوف في القرن العشرين"، ص30. ولا يأتي هذا الوصف على ما قد يبدو فيه من مبالغة، من فراغ، فما أحدثه الفيلسوف النمساوي يعد نقلة كبيرة في عالم الفلسفة، إذ أعاد إليه الحيوية، ومهدت أفكاره لفتح مجالات علمية جديدة ما زال الطريق مفتوحاً فيها لإسهامات الباحثين. فقد عني فتغشتاين بكيفية إتمام التواصل بين البشر. وهو في المرحلة الأولى من حياته ظن أن التواصل يتم عن طريق نقل الصور، وفي فترة لاحقة، وتحديداً في كتابه "تحقيقات فلسفية"، توصل إلى نظريته الألعاب اللغوية. فاللغة أصبحت بالنسبة إليه أداة في لعبة يتواصل من خلالها البشر، فإذا قال المدرس لتلاميذه في الفصل "الجو حار"، فإن ذلك يرتبط بسياق محدد. هو هنا يلعب لعبة لغوية طالباً من أحد التلاميذ أن يفتح النوافذ مثلاً إن كانت مغلقة.


لكن الخلل يحدث في اللعبة اللغوية عندما لا يتفهم الطرف الآخر في المحادثة مراد المتكلم، وقد فتحت هذه النظرية الباب أمام فلاسفة اللغة واللغويين والنقاد الأدبيين وعلماء الاجتماع، مجالاً لم يكن مطروقاً من قبل، وتولدت عنها نظريات مهمة، مثل "أفعال الكلام" لجون أوستن وسيرل، و"الاستلزام التخاطبي" لغرايس، وغيرهم من فلاسفة اللغة.

حضور السياق

يعطي لودفيغ فتغنشتاين أولوية للسياق في أعماله الفلسفية، فمن السياق يتولد اليقين، واللغة لا يمكن أن تنفصل عن السياق الثقافي والاجتماعي. ويعيد فيتغنشتاين من خلال هذه الأفكار الأولية التذكير بأهمية اللغة العادية المستخدمة في الحياة الطبيعية بين الناس في سياقات مختلفة. فهو دوماً ما يعيد العبارات من استعمالها الفلسفي إلى استعمالها الطبيعي؛ لأن اللغة الفلسفية لا تحكم اللغة اليومية، وإنما العكس. فعنده الاستعمال والسياق هما اللذان يحددان المعنى والوظيفة لأي لعبة لغوية. ومن ثم فإن فلسفته هي ذات طابع برغماتي في رفضها الجري وراء الأفكار الميتافزيقية، طالما أن هذه الأفكار ليس لها استعمال يومي في لغتنا وممارستنا العادية. السياق عنده هو الذي يحدد جدوى البحث في القضايا، والقضية لا يكون لها معنى إلا في استعمالها، فهو مؤمن بمقولة غوته في مسرحيته "فاوست"، "في البدء كان العمل". ففي البدء لم تكن هناك الفلسفة بكل إشكالياتها وأسئلتها، ولكن كان العمل. وبالنسبة إليه: "لا لغة من دون فعل وممارسة، ولا توجد حياة ومجتمع من دون عمل. نحن لا نفكر ثم نفعل، بل نفعل ونمارس، ثم نفكر. هذه هي الطريقة التي تعمل بها المجتمعات. لا نحتاج لفلسفة أو نظرية أو فكرة ما لتحدد وتسوغ أفعالنا. هكذا نتصرف فحسب"، ص16.


يشير فتغنشتاين إلى أن كثيرين يرون أن الرياضيات هي أكثر العلوم يقينية، موضحاً أننا قد وصلنا إلى معرفة طبيعة الحساب من خلال تعلم الحساب بأن 12x12=144، وهناك إطار مرجعي من خلاله يستطيع المرء أن يعرف وقوع خطأ ما في مثل هذا المسائل، وكذلك بالنسبة إليه نتعلم اليقينية في قضايا أخرى، مثل أن الأرض موجودة قبل مولدي بمدة طويلة، أو أن اسمي هو كذا، والتشكيك في مثل هذه القضايا نوع من العبث؛ لأن الإطار المرجعي الذي تعلمناه يؤكد مثل هذه الحقيقة. فالناس يعرفون أن اسمي كذا، وينادونني به وأتعامل به مع جميع المؤسسات، فالشك في كل شيء مثلما فعل ديكارت هو أمر عبثي، فعلى حد عبارته: "إذا حاولت الشك في كل شيء لن تشك في أي شيء، فلعبة الشك نفسها تفترض اليقين مسبقاً"، ص59.

ويفرق فتغنشتاين بين اليقين والمعقولية، "ما يعده البشر معقولاً أو غير معقول يتغير، يجد البشر في فترات معينة المعقول الذي يجدونه في فترات أخرى غير معقول، والعكس صحيح... يؤمن بعض الأشخاص الأذكياء والمتعلمين جيداً بقضية الخلق في الكتاب المقدس، بينما يعدها آخرون غير صحيحة، ومسوغات هذا الأخير معروفة جيداً للأول"، ص94. لذا كان فتغنشتاين يعارض بشدة أي محاولة لتبرير الاعتقاد الديني بالمعطيات التجريبية؛ سواء أكانت تاريخية أو علمية.

فاليقين أيضاً متغير، فقد كان هناك يقين راسخ في حقبة معينة باستحالة وصول البشر إلى القمر، إلا أنه تبدل مع العلم الحديث. وفي الختام فإن الكتاب ينتصر لليقين بوصفه هو الأصل، وأن الإنسان كي يشك لا بد أن ينطلق من قاعدة يقينية لديه يشك فيها، واليقين عنده هو جزء من اللعبة اللغوية. ويناقش فتغنشتاين الكثير من الأفكار المهمة، مثل العلاقة بين اليقين والمعرفة، واليقين والمعقولية، واليقين والذاتية والموضوعية. ويقارن بين الشك العلمي والشك الفلسفي، وطبيعة اليقين الفردية، ويصل في الأخير إلى نتيجة مفادها أن اليقين يكمن في اللغة نفسها التي نتعلمها منذ الصغر.

عبد الكريم حجراوي / عن موقع إندبندنت عربيّة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش