ثمة موت يدركك وأنت حيٌّ \ نجيب محفوظ


 

متى يموت الإنسان؟..لم أفكر أبدا في الموت باعتباره حالة سريرية فقط، كنت طوال مدة حياتي الميكروسكوبية أعتبر  الإنسان مشروعاً قابلاً للموت داخل أي جسد، المشروع المحكوم عليه بالفشل، بالزمانية، بالاندثار..كنت أخاف الموت إلى أن أغرمت به واحتل كياني دون أن أعيشه، وبقدر ما أردت أن يبدوتفكيري عميقا فقد بدوت دائما عقيما،لا أفكر أبدا، الناس لا يعلمون عمّا يعتمل داخلك أبدا إن لم تخبرهم، وفي النهاية لا أحد يهتم للموت خارج جسده، فهوقضية شخصية، إنها محض خيالاتك عن الموت والحياة والأشياء التي تحدث مع الجميع، وهي لا تصلح مادة للمشاركة،ولكن متى كانت الكتابة مشاركة؟ ماذا يعني أن يتخيل أحد الموت غير السريري، هل موت نفسي، موت ميتافيزيائي، موت عاطفي، موت فرداني، تراجيدي، كوميدي، جماعي، نزعة دونكيخوتية؟ ماذا بالضبط؟ اعتقدت أن الحياة لا يمكن أن تستمر أبدا بشكل مثير دون تجربة الموت، لكني جربت ذلك الشيء، ليس عبر جسدي،كان موتا جسديا سريريا، لكنه في جسد آخر، وبالنسبة لي ظل الأمر شبيها بموت شخصي لشيء لم أقدر يوما على وصفه، لو ينظر النرويجيون إلى هذا الاعتبارالسخيف سيضحكون حتما، سكان الشمال الذين يعتقدون في أساطيرهم القديمة أن كل من لا يموت داخل ساحة الحرب سيدخل جهنم، ماذا سيقولون عن كيان زُجاجِيٍّ كسرَهُ موت كيانٍ آخر دون لمسٍ؟ في أعم التصورات التي شكلتها عن ذاتي أولا، لم يكن مفترضا أن يكون لأي كيان آخر مكان يخترق حميمية التفاهة اليومية التي أعيشها، لكن أخي لم يكن آخر، لقد فتح عينيه تماما على وجودي في البيت، ولم يعتبر نفسه  آخر يريد التقرب إلي أو التعرف عليّ، معظمنا تحدث معه هذه الأشياء الاعتباطية، مثل ولادة طفل في أمسية شتوية عاصفة، ويكون ذلك الطفل من البطن نفسه، ولا يمكن اتخاذ « موقف » حيال الأمر، ليست كل الأشياء قابلة لأن نتخذ موقفا إزاءها لأنها – ببداهة – ليست موضوعا للكبرياء الشخصي. عبره تماما، عبر كيانه الزجاجي الصغير الذي جاء في ليلة شتوية باردة جربت الموت الحقيقي وأستطيع أن أقول إن ندوب ذلك الموت تتعدّى موتي الذاتي متى كان..تتعدّاه إلى أن تكون ندوبا خالدة في أي شيء يمثّل عنفوان الحياة، لقد تجاوزت الهلع الميتافيزيقي من الموت عبر تجربة أخي، أنا حر من الخوف الأنطولوجي الذي يبثه الموت في الخيال، الموت يُفسد الخيال والعقل والروح بزرع الخوف، تحرّرت من كل ذلك، لكن بأي ثمن؟ لقد تفتّتَ كيانِي على منفضة الحياة مثل الرماد الدافئ..لا الموت يعني شيئا، ولا الحياة تعني شيئا..لأنه ما من معنى للحياة دون خوفٍ من الموت، لقد متُّ عبر جسدِ أخي، لم أعتقد يوما أن ذاتا شبيهة بذاتي، متخشبة، متفحّمة من الداخل، يمكن أن تموت في جسد زجاجي شفّاف، لم يعرف الحياة أبدا بكل تكراراتها العبثية، لذلك لم أتصور أبدا أن أكون ضحية الموت قبل أن أجرّبه، ذلك أن الذوّات الأسطورية بالنسبة لأصحابها – وهم ينغمسون في خيالاتهم العُصابية- لا تموت إلا مُحترقة في الجحيم، أو ساقطة من هاوية خرافية  بلا قرار..ولكنّي متُّ في لحظة اختناق عبر جسد زجاجي صغير، ليس عبر أي جسد آخر، عابر أو غريب..إنّه جسدُ أخي الذي تقوّست عظامه في سن مبكرة، وبقدر ما كان  يمرضُ كانت روحي تتمايل في الريح، حتّى انطفأت كآخر مِشكاةٍ في الفجرتلك تجربتي الوحيدة والمنعزلة عن الموت، لقد مت عبر جسد الآخر. الآخر البيوريتاني في وجوده، الذي لم تضمخ الحياة مشيمته  بالهواء الذي نتنفسه في مرحلة متقدمة من الوجود لم أعتقد يوما أن للموت في الآخر معنى، ذلك أن ذات أخي استقطبت كياني الفظ في طابعها الدّيني غير المركّب، لأنها كانت و- لربما ستظل – بعيدة عن صراعات  الحياة المجّانية، عن تفاهة الكبرياء، لأنها وبصيغة ما، – سحرية ربما، خرافية ربما،- جعلت لوجودي قبل ست سنوات معنى ما، وجعلتني أيضا أرثوذكسيا في ديانة الحياة ساعتها وفي ديانة اليأس في ما بعد..لأن الحياة عبر تجربة الموت، ليست نقيضة لليأس، ولا للأمل أيضا، إنها فقط ممارسة تتم في ذوات مختلفة، يندر أن تحصل بينها ارتباطات اعتباطية مثلما حصل لي مع الأخ الصغير..وياما تنتهي تلك الارتباطات بأشد أنواع الانفعالات المدمّرة، إنْ يأسا أو أملاً..أو صدمة خرافية لا يتصوّر الوعي مدى رُعبها وثقلها على الروح لقد تنفسْتُ لحظة ولادته، وكانت صرختي داخلية، أنا الذي كنت صغيرا شعرت لأول مرة، ولا يهم أبدا بماذا شعرت ساعتها، لأن تلك كانت بداية تجربة محسوسة  لم تتوقف إلا في ليلة يناير العاشرة. لم أكن طوال وجوده قادرا على عزل نفسي، كان الآخرون يتولّون ذلك، وبفضل إيماني المطلق بالحياة وبأخي، كنت أعيد المحاولة دائما، وأقبل كل ضعفي وقوانين الأشياء..لقد انجرفت وراء سلطة البيولوجيا والدم، وشعرت بأن روحي – التي ستموت حية في ما بعد -  متموجة بشكل لا يصدق، لقد كنت حيّاً وتلقائيا في ممارسة الحياة، الآن ماذا تبقّى؟  ست سنوات من معاقبة الذات على أشياء لا دخل  لي ولا لأي شيء بها، حتى الطبيعة، فإنها صامتة ولا عقل لها، لماذا أبحث عن مسؤول أوّل عن الأمر؟ قبل هذا السؤال كنت أهمي من الحياة، وأنبض كاملا في جوف اللحظة. وبعد هذا السؤال تحوّلت إلى كومة من الرماد، حتى البيولوجيا ساعدت  قدري اللعين على تكوين المسخ العاطفي الذي  ينهار غير مبالٍ بأي شيء، وكأن فعل انهياره شيء بُطولي يجب أن تقف طوابير المؤرخين لتسجله ويقف كل سكان الأرض مندهشين منه، إن السؤال: من المسؤول عن موت أي شخص؟ ليس سؤالا، إنه ميكانيزم نفسي داخلي يرغب في تدمير كل ذات، إنه أشد أنواع التعذيب وحشية، ولكن لا مفر منه، لم أعتبر ما حصل في ليلة العاشر من يناير شيئا عاديا، ذلك أنّني قبل ذلك كنت أعتبر كل شيء عادي، ما يتغيّر داخل الإنسان مع كل تجربة موت ليس عاديا، ولا يمكن أن يكون عاديا، إن كان هناك سرٌّ في كل تلك التحولات الطبيعية فقد أفهم أن يموت شخص في سن الستين ويتحول إلى سماد أو نبات، وسأرفع أصبعي الوسطى أمام الرب أو قوانين الفيزياء في لحظة الوفاة ساعتها، لكن أن يتم الأمر بذلك الشكل البشع، بشاعة مطلقة في حق الجمال والاتساق والحياة نفسها، فإن أيّ فكرة أو نظام أو قانون يتسامى على وعي الإنسان، أو أضعف وأعاتبه باكيا وأنهارُ عند قدميه ثم ألعن، أن يجعل شيءٌ ما حادثة مريعة مماثلة نقطة فصل بينك وبين العالم كما كنت تعرفه، وتشعره وتريده، فإن ذلك ليس أمرا يمكنُ غفرانه للذات قبل أي شيء آخر، لم أعرف أبدا من يجب أن ألوم أو أعاتب، لذلك عاتبت نفسي، ومنذ ليلة يناير والأمر كذلك، إن مجرد تصور كمية الحسرة التي يبثها المشهد الختامي – الذي لم أحضره – في الصدر، مجرد ذلك التصور كافٍ تماما لأن يقتل أي شيء داخل أي إنسان..أليس شعورا بالخيانة والفقدان والغضب والعجز؟ ألم أشعر بأنني أقلُّ قدرة من الحشرة التي تدب على الأرض؟..لقد أردت أن تغمرني الأرض أو أمزّق صدري، ولكن كل ما فعلته أني دخلت دوامة لامبالية من الحياد المطلق، لا أعرف إن كانت مرحلة قصوى من ردة الفعل، لم يعد بمقدور أي مشهد أن يحرّك الإنسان داخلي، يحدث هذا دائما مع الإنسان، كأن يموت كل شيء داخل سيلفيا بلاث بعد وفاة الأب، حتى الأطفال، الزوج وضروريات الحياة لم تغير شيئا ولم تمنع الوداع الإرادي للحياة، يحدث الأمر مع الجميع هكذا، لذلك لا يشعر الآخرون بالألم أحيانا لمعاناة شخص أو موت مليون شخص، هناك شعور دفين بأنها مهزلة، كوميديا إلهية، وإلا ماذا نسمّي أن تسلبُكَ الحياة معنى الحياة نفسه؟ لم يكن موت أخي ما سلبنِي معنى الحياة، لكن الطريقة التي مات بها، والتي يموت بها أي شخص، بعد أن يتعذب لسنوات هي ما كشفَ لي الوجه الأخير للحياة، الوجه الذي لا قناع فوقه، بعد أن تتساقط الأقنعة جميعا، أليست لعبة بغيضة؟ أي اختبار ساديٍّ أن يتقلب الإنسان من الألم طوال سنوات ثم ينطفئ في غياب كل من أحبوه وأحبهم؟..إن الحياة لا اعتراض عليها، فالشر جزء من اللعبة، لكن لماذا التنكيل بالجثة؟ هذا ما يدمّر رغبتي في الحياة ويجلعني بين قطب الرغبة وقطب الشعور بالعجز التام أمام الفقدان. تساءلت أيضا عن الصدفة التي أجلت حضوري إلى البيت قبلها، وما الفرق؟ ماذا كنت لأفعل مع صورة اختناقه فيما بعد؟ أين أدفنها وكل ركن من الذاكرة معطّر بالموت والبراءة؟ إن وضع الرأس تحت الماء والصراخ، أو كتابة بعض الكلمات المنفعلة  الرابعة صباحا، ونداء الشيطان قبل الرب، كلها أشياء صبيانية..الغريب في فقدان أخي أنه أصبح مكسبا، وأن أي فقدان بعد ذلك أصبح تمرينا حياتيا مقبولا، لذلك فكل التصرفات الصبيانية بعد كل موت، سريريا كان أو معنويا لأي شخص، لا تعني سوى شيء واحد، وهو أن الجرح لم يخثر بعد، وأن الإنسان لازال خفيفا، ولم يثقل الحزن كيانه..لقد أثقل الحزن كياني تماما، وبقدر ما انكسرتُ من خلال الكيان الزجاجي المرهف، فقد حرّرني الحزن الخرافي الذي لم أتصور وجوده يوما من أوهام الحياة، أنا ممتن للموت والانكسار وللكيان الزجاجي المُغادر قبل الأوان إلى الأبد.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش

على الطريق \ فريدريك نيتشه

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

كتاب مت فارغا \ تود هنري

تسلية أنفسنا حتى الموت \ نيل بوستمان

عندما تحب روحًا عتيقة \ لويزا فليتشر