اليَائِـسُ العَظيـمُ \ صلاح بو سريف
آهٍ ! لَوْ وُلِدْنَا قَبْلَ الإنْسَانِ
[1]
إميل سيوران، من الكُتَّاب الذين أعُودُ لقراءتِهم باستمرار. منذ مُوَاجَهَتِي الأولى لبعض أعماله، وَجَدْتُ نفسي أكثر اقتراباً من هذا اليائس العظيم. ربما كان هذا الانْجِذاب نحو سيوران، يعود إلى قراءتي المُتوالية لأعمال نيتشه.
لا أحدَ يستطيعُ قراءة سيوران، دون أن يسترجع أعمال نيتشه، وبعض آرائه، فيما سيذهبُ إليه سيوران نفسه، في مفهوماته لتي ارتبطت بطريقة النظر في الأشياء.
لعلَّ في بعض اليأس، وفي الميل إلى العُزلة والتَّوَحُّدِ، التي تأخُذُني، ما جعل قراءتي لسيوران لا تنقطع. قد أُؤَجِّلُ هذه القراءة لبعض الوقت، أو أنْشَغِلُ عن صديقي هذا، بأمور أخرى، لكن حالما أجد نفسي في حاجة إلى اسْتِشَارَتِهِ، أو إلى مُؤَانَسَةِ عُزْلاتِهِ، والتَّوَحُّدِ في غَيْبوبَاتِهِ التي تأتي من مصدرين أساسيين في المعرفة، وفي إنعاش الروح، وتوكيد رهافتها؛ الموسيقى والشِّعر، أعودُ إليه، مُنْصِتاً إلى كَرَمِهِ في المعرفة، والكتابة.
[2]
لم يكن سيوران مأخُوذاً بجغرافية مُحَدَّدّة، فهو كان مُواطناً عالمياً. كان يقيس "وجوده"، أو هذا "العدم" الذي فيه كان يَتَبَيَّنُ وجوده، بكل الأراضي التي هي انشراح، وليست قَفَصاً، فيه تبقى الروح أسيرة فداحاتِها. فما كان يعتبره تَشَرُّداً ميتافيزيقياً، فهو يدخل في صميم هذا الانتمـاء إلى "اللامكان"، إلى تلك الرّحابـة، أو الامتـداد البعيد الذي لا نَسْتَشْعِرُهُ إلا عندما نترك النَّفْسَ، أو الروح، تنطلق خارج كل الانتماءات.
[3]
حين اختار سيوران الكتابة عن بعض الكُتَّاب والمفكرين والشُّعراء، فهو اكتفى بمن هُم أقرب إلى نفسه. ليس من قبيل الصُّدفة أن يختار، مثلا، الكتابةَ عن هنري ميشو، هذا الشاعر الذي واظب على سياسة اللغة، وفق منظورٍ شِعْرِيٍّ، لا يمكن اختراق جَسَارَته، إلاَّ بالنَّفاذ إلا جوهر الرؤية التي بها كان يُوَاجِهُ ميشو دُوَّارَ vértige العالم، أو غيبوبته.
فسيوران حين كَتَبَ عن ميشو، كان من القلائل الذين لامَسُوا فـي شِعْرِهِ "سَرَّ" الهاوِيَةِ التي كان ميشو من أقصى شُرَفِها يُطِلُّ على ما كان يَحْدًثُ في العالم من خساراتٍ.
[4]
هذا، ربما، ما دفعني، أيضاً، أن أكتُبَ عن ميشو، ضمن كتابِي"آخر الموتى"، بنفس هذه التَّسْمِيَةِ؛ بالتأكيد على خسارات ميشو.
ليس في الأمر غرابة، فالصَّدَاقةُ في الشِّعر، وفي المعرفة، هي أحد النداءات التي تأتينا دون أن نكونَ على وَعْيٍ بها، أو بما قد تحمله لنا مِنْ صُدَفٍ ومُفَاجَئاتٍ.
لم يكتف سيوران بميشو من بين الشعراء الذين كتب عنهم، فقد ذهب إلى غيره. ذهب إلى بول فاليري، كما ذهب إلى سان جان بيرس. وإذا كان اعْتَبَرَ بيرس مثلاً، أحد الخارجين من سياق الزمنية التي عادةً ما تكون آفَةَ بعض الشُّعراء الذين يموتون بموت الزمن الذي اختارتْ تجاربهم أن تَاْسَرَ نفسها داخله، فرُؤْيَتُه لفاليري ذهبت إلى اللغة، إلى ما كان فاليري يعتبرهُ جوهر عمله الشِّعْرِيّ، أو ما يمكن اعتبارُهُ، من المشكلات الشعرية الكبرى في عمل فاليري، أو تلك اللغة التي رَوَّضَها على خَوْضِ المجاهل، وعلى مُؤانَسَة الخطر.
[5]
ليست الصداقة وفق هذه الرؤية هي ما نُحْدِثُهُ من علاقاتٍ، هُنا وهُناكَ، أو ما قد يَحْدُثُ بِصُدَفٍ ما. الصداقةُ كما أرادها سيوران، هي هذا اللقاء الذي يأتي من خارج اللقاء، أو يحدث بعد أن يكون هذا الشاعر أو ذاك انصرفَ إلى مَشَاغِلِهِ الأخرى، أي إلى ما يُسمِّيه سيوران نفسه بـ"ما قبل الزمن"، أو "العدم"، الذي كان سيوران مُنْصَرِفاً إليه.
[6]
ما معنى أن يكون سيوران مُتَوَحِّداً، أو أن يختارَ المَشْيَ وحيداً، في وقت مُتَأَخِّرٍ من الليل..
شخصياً، حين عرفتُ أن هذه من الرياضات التي دَأَبَ سيوران على ممارستها، لم أستغرب الأمر، واعتَبَرْتُ المَشْيَ، هكذا، في هذا العَراء، هو من الأمور التي أَقْدَمَ عليها كُتَّاب ومُفكرون وشُعراء، كانت لحظات المَشْيِ بالنسبة لهم، نوعاً من اختبار جسارة المعرفة على مُراجعة نفسها، وعلى وضع الروح في مُفْتَرَق نُزْهَاتِها.
لم يكن سيوران يمشي لوحده، فهو، كما كان يحدث لباقي المشَّائين الكبار، كان يَقُودُ يَأسَهُ مَعَهُ، وكان يُرَاوِدُ نفسه على اقْتِرافِ زَلاَّتِها. أعني أنه كان يمشي وهو يُفَكِّر فـي زمن ما قبل الوُجـود، أو ما يُسَمِّيه نيتشه بـ"البداية"، لأنّ سيوران، لم يكن بدوره يُؤمنُ بفكرة "الأصل". ليس ثمّة "أصل"، هناك "بداية" ما، والمسافة بين الاثنين تعني الشيء الكثير، وتَحُلُّ كثيراً من مُعْضِلات علاقتنا بما نعتبرُهُ ماضياً، أو تراثاً، أي أصلاً.
[7]
لعلَّ في خروج سيوران عن الأنساق الفلسفية، ورفضه للمنظومات الفكرية، وحتى الكتابة بشكل مُسْتَرسَلٍ، هو من الأمور التي جاءت مُنْسَجِمَةً مع طبيعة رُؤْيَتِهِ، وما اختار أن يَكْتُبَ فيه من أفكار، أو تأمُّّلات بالأحرى.
لكن حين يرفضُ أن يقتبس من غيره، فهذا أمرٌ يحتاج إلى توضيح. أي نوع من الاقتباس الذي رفضَهُ سيوران. ثمة أشكال مختلفة للاقتباس؛ ما نُعْلِنُهُ بوضع علامات تَدُلُّ على مرجعيته، أو نُثْبِت مكان وُجُوده، والإحالة عليه، وما يَأتي مُضْمَراً، أي غير مُثْبَتٍ، أو مُحالاً عليه.
حتى حين كان سيوران يرفض الاقتباس، فهو في تقاطُعه مع شاعر، أو مفكِّر، أو فيلسوف، كان يقتبس، لكن بغير مَرْجِعٍ. وحتى في حالة رفض أفكار ما، فنحن، حين ننتقدُها، أو نقوم بتقويض أُسُسِها، نُحيلُ عليها، وتكون حاضرة في ما نكتبُهُ، كمرجع، إما ظاهراً أو مُضْمَراً. فقراءتي لسيوران، كانت تُحيلُني على بعض آثار عُبُورِهِ، على الأمكنة والأزمنة، رغم أنه لا يَفْضَحُها، أو لا يُحِيلُ عليها.
هذه، إذن، اقتباسات، لكنها مُضْمَرة، وتحتاج معرفةً بسياقات اشتغال مَنْ نُقْدِمُ على قراءتهم، أو مُصَاحَبَتِهم من أمثال سيوران، ونيتشه قبله، وحتى أفلاطون الذي ظل سقراط يقود خَطَواته، ويُوَشْوِشُ في أُذُنيه، بما كان سُقراط يقوله شَفاهةً، ولم يُفكِّر قطُّ في كتابته.
تعليقات
إرسال تعليق