فلسفةُ موت الإنسان \ ميشيل فوكو


 


لقد تكوَّن الإنسان متضايفاً مع تاريخيات العمل والحياة واللغة، وهو لا يكتشف ذاته إلا بالرجوع إلى تلك التاريخيات القائمة أساساً سلفاً، وحيث لا يجد نفسه معاصراً لهذا الأصل الذي يتوارى وراء زمن الأشياء إلى درجة لا يستطيع الإنسان أن يتمثَّل ما يُشكِّل أصلاً بالنسبة له إلا على خلفية من أمور بدأت قبله.

ألم يحن الوقت لطي صفحة الأصلي الغائرة والمسكونة بشتى ضروب الوساطات المعقدة التي كونتها ترسُّبات التاريخيات : العمل ، الحياة ، اللغة ، عبر تاريخها الخاص ؟ إن هذه الحيرة يجب ألا تصرف جهود الإنسان الحثيثة عن مهمته بقصد البحث عن الأصل في تلك الثنية، حيث يصنع الإنسان بكل سذاجة عالماً مُصنَّعاً منذ آلاف السنين.


ليس بوسع أحد أن يحدِّد للإنسان أصلاً، ومن هنا نكون أمام وجهين للاستحالة : فهي تعني أولاً تقهقُر أصل بشكل مستمر، بسبب كونه يرجع إلى زمن موغِل في القدم لا وجود للإنسان فيه، ولكنها تعني أيضاً هذا الكائن الذي "لا وطن ولا تاريخ"، والمتعذَّر تسجيل لحظة ولادته الأولى بسبب عدم حصولها، غير أن الإنسان المُنفصِل عن أصله يظهر "معاصِراً لوجوده" ويبقى "سابق الحضور" إلى حدٍّ أن الموجودات تكتشف فيه بدايتها باعتباره النافذة التي تسمح للزمان إعادة تشكيل ذاته عبرها.

وأمام تعذُّر الإمساك بمصدر كينونة الإنسان، وفشل العثور على هذا الأصل عبر الماضي، فإن الأمل الوحيد يبقى في المستقبل، وكأن معنى أصل الإنسان هي مهمة تبقى باستمرار برسمِ الفَهم. وهكذا يكون التقهقر في المستقبل بمثابة اللحظة التي يرتسِم فيها الأصل.


عندما يكتشف الإنسان أن جوهره محكوم "بفقر مفرِط" بسبب جهله الأصل، يتكوَّن تاريخه. عندها لا يسع هذه التصورات الهجينة للتاريخ سوى أن تأخذ في الممارسة بشكل الرعب والمناورة الذاتية والعبودية، وهذا ما يؤول إليه البحث عن أصل يؤدي بالفكر على الدوام إلى التقهقر دونه إلى أصل أبعد، وهكذا. لذلك فإن الفكر المرصود بهمِّ العودة يسقط في وهم التفسير الغيبي الذي يضطر إلى "تكرار التكرار" وهذا ما يجعل أصل الأشياء مفارِقاً لها.


إذاً بنى فوكو فلسفته على الرّفض الجذري للنزعة الإنسانية. وقد أعلن بجرأة أن الإنسان لم يُكتشَف إلا منذ مدَّة قصيرة، واكتشاف وجوده يؤذِن بنهايته القريبة. لم يظهر الاهتمام بالإنسان إلا منذ مئتي سنة ، حيث أخرج فوكو الإنسان من اهتمامات العصر اليوناني ، ذلك العصر الذي - حسب فوكو - كان مرهوناً للآلهة والطبيعة والكون، وليس للإنسان. ثم وبزيادة جرعة الجرأة : يعلن فوكو أن الإنسان أيضاً لاوجود له في فكر العصر الكلاسيكي أو في عصر النهضة، بسبب لا إنسانية عصر النهضة، ولا عقلانية العصر الكلاسيكي.


يبرر فوكو ماوصل إليه حول الإنسان بأنه عندما اكتشف ( كوبرنيكوس ) أن الأرض ليست مركز العالم، سحب السّيادة من يد الإنسان. ومع مجيء ( داروين ) سقط الإنسان في متاهة أنه ليس سوى مرحلة من مراحل التطور البيولوجي. وسدّد ( فرويد ) للإنسان ضربة مؤلمة ، حيث قال بأن على الإنسان أن يكتشف ( لا وعيه ) حتى يعرف المغزى من أفعاله.

وفي قراءته الحفريّة يصل فوكو إلى نتيجة أنه على الإنسان الشّريف أن يشعر بهشاشة الإنسان وبتمزقه في العالم المعاصر.




 حفر في أركيولوجيا العدمية لدى ميشال فوكو ، فوزي العلوي ، دار المعارف الحكمية ، بيروت.


 الفلاسفة والأخلاق ، أندريه كريسون ، ترجمة : عبد الحليم محمود و أبو بكر زكري ، دار العراب ، سوريا ، 2009.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش