رسالة في إصلاح العقل \ باروخ سبينوزا
إذا كانت السّعادة العظمى في الثراء و المجد، فإنّي سأكون قد تنازلت عنها. أمّا إذا لم تكن فيهما، فإنّ تعلّقي بهذه المزايا دون غيرها سيجعلني أفقد السّعادة المنشودة أيضا. ساورني القلق إذن، فتساءلت عمّا إذا كان بوسعي أن أؤسس حياة جديدة، أو على الأقلّ أن أكون واثقا ممّا أؤسّسه دون أن أغيّر شيئا من نظام حياتي القديم و ا من سلوكي المألوف. حاولت ذلك طويلا دون جدوى، إذ أنّ أكثر الأحداث تواترا في حياة الناس، تلك التي ينظرون إليها، مثلما يستخلص من أعمالهم كلّها، على أنّها الخير الأعظم، إنّما تنحصر في ثلاثة: الثّراء والمجد واللذّة الحسّية، وهي تشغل الفكر عن التركيز على أي حيّز آخر. فالنّفس تتعلّق باللذّة كما لو كانت قد وجدت الخير الّذي ترتاح إليه، فتكون عاجزة إلى أقصى حدّ عن التفكير في خير آخر. و من جهة أخرى، يتلو المتعة حزن شديد يُربك الفكر ويُضعفه و يثبّطه. أمّا السّعي إلى الثراء و المجد، فهو لا يشغل الفكر أقلّ من اللذّة ـ و لاسيّما السعي إلى الثراء ـ إذا كنّا نبحث عنه لذاته، لأنّه سيظهر آنذاك بمظهر الخير الأعظم، و أمّا المجد، فهو يشغل الفكر و يصرفه عن كلّ شيء آخر، لأنّنا ننظر إليه في الغالب على أنّه الخير بذاته و على أنّه الغاية القصوى الّتي ترمي إليه جميع أعمالنا. ثمّ إنّ الثراء والمجد لا يعقبهما الندم، مثلما الحال بالنسبة إلى اللذّة، بل على العكس من ذلك، كلّما زاد فوزنا بأحدهما، زاد شعورنا بالفرح وزاد بالتّالي دأبنا أكثر فأكثر على مضاعفتهما، لكن لو شاءت بعض الظروف أن تخيّب آمالنا، لانتابنا آنذاك حزن شديد. و أخيرا فإنّ المجد يقف هو الآخر حائلا كبيرا أمام تحقيق السّعادة، لأنّ الفوز به يقتضي من المرء أن يوجّه حياته وفقا لما يراه النّاس، أي أن يتجنّب ما يتجنّبون عموما وأن يسعى إلى ما يسعون إليه.
ترجمة: جلال الدين سعيد ،دار الجنوب للنشر، تونس، ص 27 ـ 28
تعليقات
إرسال تعليق