مارسيل بروست صاحب الرواية الأطول في تاريخ الأدب \ سوسن الأبطح
مارسيل بروست صاحب الرواية الأطول في تاريخ الأدب. رائعته «البحث عن الزمن المفقود» منحته شهرته رغم أن له كتابات كثيرة أخرى، 7 مجلدات، نحو 3200 صفحة، استغرقت كتابتها 14 عاماً، ولم يتمكن الكاتب من إكمالها. فقد توفي بروست قبل أن ينتهي من تنقيح مشروعاته والمجلدات الثلاثة الأخيرة التي نشرت بعد وفاته، وحررها نيابة عنه شقيقه روبرت. عرف بروست أنه في صراع مع الوقت، والمرض يداهمه، فكانت العزلة والمثابرة وسيلته الوحيدة لتأمين ما يخلد ذكراه، وقد كسب الرهان.
كتب بروست عدة مؤلفات، لكن «البحث عن الزمن المفقود» أفقدت كل ما عداها الوهج. فهي نفسها تتشكل من عدة قصص، وبقيت موضعاً خصباً للتحليل، رغم مضي عشرات السنين على صدورها. فقد أبصر المجلد الأول «من جانب سوان» النور عام 1913، بعد أن رفضت نشره عدة دور، ثم صدر «في ظل الفتيات الحاملات الزهور» وحصل على جائزة «غونكور»، ومن بعدهما «جانب غرمانت»، «سدوم وعمورة»، «السجينة»، «البرتين تختفي» الذي حمل لاحقاً عنوان «الهاربة»، وأخيراً «الزمن المستعاد».
تبدو «البحث عن الزمن المفقود» لقارئها بأجزائها، كأنها بيوغرافيا، لكنها في العمق ليست كذلك. فأهم ما فيها ليس الراوي نفسه الذي يتماهى مع بروست، أو الحكاية التي أراد أن يقصها الكاتب، وإنما انسياب الزمن، وحركته في مد وجزرٍ لا ينتهيان. يحاول بروست أن يثبت لنا أن كل ما حدث في الماضي لم ينتهِ، ولا ينسى، بل هو باقٍ وخالد ومحفوظ في مكان ما، ينتظر إحياءه من جديد.
الرواية تضج بالشخصيات، لكن دورها على أهميته، يبقى ثانوياً، إذا ما أخذ الكتاب بكليته. الراوي يحتل مكان الصدارة، لكن الزمن هو البطل الذي لا يضاهى. النقاد يشبهون قراءة «البحث عن الزمن المفقود» بتسلق جبل، يحتاج جهداً ومثابرة لإتمام مهمة الصعود القاسية. لكن الوصول إلى القمة يحقق سعادة كبرى، ومعرفة بنوع روائي خاص، كدّ صاحبه كثيراً، ليصل بنا إلى هذا الشاهق.
وُصفت الرواية بالنخبوية، لأن قراءة كل هذه الصفحات تحتاج صبراً لا ينفد. لكن ثمة ما يغري بقبول التحدي، وبمواصلة القراءة، لأن الوصول إلى الصفحات الأخيرة لا يدخلك موسوعة «غينس»، لكنه يفتح أبواباً من الأسئلة الخصبة.
فهي رواية لا تمر بلا أثر عميق في النفس. قراءتها عبور لكمّ هائل من المشاعر والأحداث والذكريات والقصص، من خلال ذكريات الراوي. لكن بروست لم يكن معنياً بالذكريات لذاتها، بقدر اختباره المتواصل، لميكانيكية حركة هذه الذكريات، وكيف تطفو على السطح. ما هو المهماز الذي يشعل لحظة الاستعادة؟ ما الذي يجعل حدثاً بعينه، يستدعي مرحلة أو مقطعاً من حياة مضت، وغابت تماماً عن الذهن. لماذا أساساً تبقى الذكريات حاضرة فينا إلى هذا الحد، وقادرة على إسعادنا، وجلب التعاسة لنا، بينما هي أمر انقضى.
صوت ما، أو مشهد، أو طعم، أو أي تفصيل حياتي بسيط، كان يمكن له أن يمضي عابراً، بمقدوره أن ينعش سيلاً نابضاً من الذكريات. ولربما أن المقطع الشهير الذي لا يمكن لقارئ «البحث عن الزمن المفقود» أن ينساه، هو الذي يمسك خلاله الراوي بقطعة المادلين، ويغمسها في فنجان الشاي، ويضعها في فمه لتذوب، وتفتح باب الذكريات على مصراعيه، لتنتفض منتعشة بكامل زهوها.
طريقتان تحضر بهما الذاكرة، صورة جامدة، كما هي اللقطة الفوتوغرافية، وطريقة ثانية هي إعادة إنعاشها وإحيائها، وتحريك المشهد. فالصورة وحدها حين تحضرنا، وكأنما تجمدت، لا تثير في النفس الشجن، ولا الحنين، الكبيرين اللذين يجلبهما المشهد حياً وهو يتنفس. فهذا أمر آخر، مختلف زخمه تماماً. الذكريات، التي يذهب بروست إليها هي التي تأتيه بغتة كأنها مقطع من فيلم ثلاثي الأبعاد. هي ذكريات كانت في حالة تجّمد مؤقت، تنتظر أن تعود إلى الحياة. وما كانت تحتاجه هو هذا المهماز الصغير، قد يكون مذاقاً لأكل ما، أو صورة، أو صوت، وربما كلمة أو حدث صغير مباغت. وهو بهذا أميل للفيلسوف هنري بيرغسون، صاحب فكرة «الاستمرارية»، التي فتنت بروست. فلا شيء ينتهي، ولا شيء ينقطع، والنفس ليست مقبرة وإنما هي مخزن، تتعتق فيها المخزونات وتتفاعل، ثم تنبعث مرة أخرى، بمجرد أن تتاح لها الفرصة، فنقبض على هذا الجزء الثمين الذي ظننا أنه تاه منا. هذه التقنية في استعادة الذكريات تجعل نقاداً، يتحدثون اليوم، عن حس مستقبلي عند بروست، وتخيل لإمكانات في الاستعادة لم تكن أدواتها التكنولوجية حاضرة يومها.
نتعلم مع بروست أننا أعجز من أن نقدّر قيمة اللحظة التي نعيش، لأننا لا نعي أهميتها، أما حين نتمكن من إحيائها، ندخل فردوس التلذذ المتأمل. فالراوي ماتت جدته التي يحبها شديداً وكذلك مات والده، ووالدته التي كان متعلقاً بها، ولم يحافظ على حبيبته ألبرتين، التي أصلاً لم يكن يدرك أهميتها وهي إلى جانبه. لكنه حين يسترجع كل هؤلاء، يخرجهم من داخله، ينفض عنهم غبار الغياب، ويعودون أحياء أمامه، بصفاء كامل، يسعد بهم وبنعمة وجودهم، كما لم يفعل حين كانوا موجودين بالفعل.
لا بد من انتظار نهاية الجزء الأخير، حتى تكتمل المشاهد، التي كانت الظروف تستدعيها مجتزأة، لنشعر أن حياة بأكملها تستعاد عفية حيّة بكامل نبضها وحيويتها.
فبمجرد أن يصل إلى نهاية المغامرة، أي أن يفلح الراوي في جعل الماضي موجوداً في الحاضر، يفهم أنها ليست سوى البداية. لأنه الآن عليه أن يبدأ بكتابة المغامرة أو يسجل هذا الاكتشاف، وهو في هذه الحالة، ما كتبه في «البحث عن الزمن الضائع». الراوي شبيه ببروست في تساؤلاته، وقلقه واهتمامه بالبحث عن المواضيع نفسها، تتملكه رغبة رهيبة بالكتابة، دائم البحث عن موضوع يريد أن يكتب عنه ولا يجده. مشغول بحياة اللهو والسهر، والصالونات. يعيش في عالم برجوازي، منغلق، ينتظر قصة حب لا تأتي، ولا وقت لديه للبدء بكتابة قصته المأمولة. فذلك يتطلب تركيزاً، كي لا يتورط في كتابة شيء لا يليق بالقراء.
أما الوعي الحقيقي بمعنى الأدب فلا يدركه الراوي إلا في الصفحات الأخيرة، من خلال 3 ذكريات تأتيه بشكل لا واع، بقيت عالقة في ذهن القراء. تعثره على باب منزل صديقة قديمة مسنة، أثناء زيارة صباحية لها، تعيد له ذاكرته حين شاباً صغيراً ووقع في ساحة سان مارك في فينيسيا. ثم يسمع خادمة تحرك ملعقة في فنجان، فيعود إليه صوت طرق موظف سكة الحديد على عجلة القطار، حين كان مسافراً مع جدته. وعندما يمرر الفوطة على شفتيه بعد أن يشرب، فيسترجع إحساسه بالمنشفة على جسده، وهو يمررها عليه، أثناء إجازة كان يقضيها في «بلبك».
يمكنك أن تقرأ «البحث عن الزمن المفقود» كقصص، أو ككتاب واحد، بطريقتين أو وجهتين. مرة أولى باعتباره بحثاً عن الزمن الضائع. ومرة ثانية قراءة كتاب الأديب، بعد أن وجد الفكرة التي يريد الكتابة عنها، بحيث ترتبط كل ذكرى بالأخرى، كأنك تدخل دائرة بروست المغلقة. فقراءة هذا الفنان الفريد هو غوص في معنى الوجود والعدم، ونحن نحيا لحظاته الكثيفة المستعادة، فإذا بإحساسنا بالوقت يتغير، ونظرتنا إلى وظيفة الأدب، وتأثيره على النفس تكتسب معنى آخر.
تعليقات
إرسال تعليق