الغلطة الأخيرة \ إحسان عبد القدوس
كان دوره على المسرح لا يستغرق سوى دقيقتين.. أن يدخل إلى عيادة الطبيب ويضحك في سخرية ويقول: «لقد وجدت أخيراً العلاج الناجع، الذي عجز عنه الطب»، ثم يُخرِج مسدسا من جيبه، ويطلقه على رأسه.. ويموت.. ويبدأ الطبيب في سرد قصته التي تستغرق باقي فصول المسرحية..
دور صغير لايستغرق سوى دقيقتين.. يتقاضى نظير أدائه خمسين قرشاً عن الليلة الواحدة.. وقد كان في حاجة إلى أكثر من هذه الخمسين قرشاً.. كانت زوجه مريضة، وابنه مشرّد في الشوارع بعد أن طُرِد من المدرسة.. وصاحب الاجزاخانة، والبقال، وبائع اللبن وبائع العيش.. كلهم قد امتنعوا عن التعامل معه وأخذوا يطاردونه.. وصاحب البيت أنذره بالطرد إن لم يدفع المتأخر عليه.. و.. وهو في حاجة إلى خمسين جنيهاً دفعة واحدة.. وحالاً.. ليستطيع أن يستمر في الحياة..
ومنذ أسابيع وهو يلح على مدير الفرقة أن يقرضه هذه الخمسين جنيهاً.. ولكنه يرفض.. لقد عمل معه خمسة عشر عاماً طوالاً، وزامله في الأيام السود والأيام البيض.. ولكنه يرفض.. لم تشفع لديه زمالة السنين.. وهو لا يتعجب من رفضه.. فقد كان دائماً يرفض.. كانت هذه هي طبيعته.. الرفض.. ورغم ذلك فقد زامله خمسة عشر عاماً.. ربما لأنه ضعيف الشخصية لم يستطع أن يحرر نفسه من هذه الزمالة أو يثور عليها، وربما لأن هوايته للفن كانت دائماً تتغلب على ثورته..
نعم.. إنه من هواة الفن.. وهب عمره كله للمسرح.. ورغم ذلك فلم يكن نصيبه من الفن والمسرح سوى هذه الأدوار الثانوية الصغيرة.. وتطور الفن واتسعت دائرته.. أصبحت هناك السينما التي تعطي الفنانين بالألوف.. ولكنه لم يتطور.. ظل مخلصاً للمسرح في أحلك أيامه.. مكتفياً بأدواره الثانوية الصغيرة
ولكنه يحس أن دوره في هذه المسرحية ليس صغيراً.. إنه دور هام.. إن القصة كلها تدور حول الكلمة التي ينطق بها.. وهو يحس أنه يتقمص هذه الشخصية كما لم يتقمص أي شخصية مسرحية من قبل.. يحس أنه ينسى نفسه، وينسى مشاكله، وينسى زوجه المريضة.. وولده.. والبقال.. وصاحب البيت.. ينسى كل شيء بمجرد أن يدخل إلى عالم المسرح.. بل إن هذه الشخصية أصبحت تصاحبه يوماً بعد يوم حتى خارج المسرح.. إنه ممثل عظيم.. عظيم جداً.. وفي كل ليلة يحس أنه يرتفع في عظمته الفنية، وأنه يقترب من حد الكمال الفني.. يقترب جداً..
وتسلل إلى غرفة المدير قبل أن يحين دوره.. وأخرَجَ من دُرج يعرفه جيداً مسدساً، ووضع مكانه المسدس المسرحي الذي يؤدي به دوره.. ثم خَرَج إلى المسرح.. وكانت في عينيه نَظرات ذاهلة.. وكان يسير في خُطى بطيئة كأنه يزحف فوق السحاب.. وكانت وجنتاه مرتعشتين.. وشفتاه متهدلتين.. ووقف أمام الطبيب في صمت.. وطال صمته.. وساد الجمهور نوع من الوجوم والترقب.. والرهبة..
وارتفع صوت المُلَقّن :
«لقد وجدتُ أخيراً العلاج الناجع»..
وانفرجت شفتا الممثل عن ابتسامة ساخرة مرّة.. وقال في كلمات بطيئة كأنه يبصقها في وجه زميله: «لقد وجدتُ أخيرا العلاج الناجع»
وعاد صوت المُلقّن يهمس: «الذي عجز عنه الطب»، وصمتَ الممثل أكثر مما يجب، ثم قال من خلال ابتسامته المرّة في كلمات أكثر بطئاً: « .. العلاج الذي عجزت عنه الدنيا.. وغفَر الله لي، وتولّى زوجتي وولدي من بعدي»!
وارتعشت يده قليلاً.. ومدّ يده وأخرج المسدس.. وأطلقه على رأسه..
وهمس مدير الفرقة في اذن مساعده: «شوف المغفل مش عارف يحفظ كلمتين يقولهم.. اخصم عليه خمسين قرش»!
تعليقات
إرسال تعليق