الجسد بين الذات و العالم \ ديوان نيتشه


 


يتقدّم الجسد إلى الوعي كموضوع على الكثير من الطّرافة : فهو موضوع يسهُل الإقرار بوجوده / من مِنّا يُنكِر أن له جسد ؟ / كما هو موضوع يَسهُل إنكاره، وفي الحالة الثانية يلعب السؤال الفلسفي دوراً مصيرياً.


يحترز أفلاطون ومعه عموم الفلسفة المثالية من كل ما يمثل أمامه مرئياً، لأن المرئي هو ظل ما يتوجب تأمّله، و أخطر المرئيات ( الجسد ) : إنه يمثُل بين الذات و العالم، مُدّعياً أنه الواسطة الضرورية بين الروح والأفكار التي تريد الذات تأمُّلها : إنه الشاشة التي تنعكس عليها التمثُّلات و ترتسم. لذلك كان الجسد بالنسبة إلى الفيلسوف المثالي مُزعِجاً، ولذلك أُعلِنت الحرب عليه في أكثر من عصرٍ و مجال، وتم سجنهُ في فضاء معرفي ضيّق جداً : إذا كانت الروح لا تقدر إلا أن تتجسد، إذا كان لابد على الوعي من عبور الجسد، فليكن ذلك في ( السِّر )، وعلى الفلسفة أن تُعلّمنا التخلُّص منه.


إن تجربة وضع الجسد بين قوسين تؤكّد أنه يستحيل على الذات بأن تتقدم كروح خالصة، أن أعرف جسدي - في منظور ديكارت - يعني أن أتنازل عن صرامة المثالية، وذلك بأن أُقِرُّ ببعض دور للجسد يجعل معرفتي بالعقل أفضل، وهذه المعرفة بالعقل هي ما يسمح لي بأن أعيد غزو الجسد، فإن البداهة تقول : أنت لا تغزو إلا ما تكون قادراً على معرفته، كذا أُحيِّد الجسد، كذا أغزو الجسد.


مع نيتشه يكفّ الجسد عن أن يكون عائقاً، بل يصبح الشرط الأساسي للمعرفة والوجود، وهو لم يُوصَف بفيلسوف الانقلابات الكبرى بلا سبب، فهو القادر على قلب القيم، إلى درجة تحويلها إلى نقيضها.

في منظور نيتشه يكون فهماً معكوساً للواقع أن نضع الروح في موقع السيادة للوعي، وأن نجعل من هذا الفهم مبدأ للوجود. ففي الحقيقة يقول : إن ما هو أوَّل هو الجسد. هذه الأولية التي يعطيها نيتشه للجسد هي أكثر من مجرد ترتيب تفاضلي، وبالتالي فهي تفرض الاهتمام بها، إنها قبل كل شيء تقف ضد الفهم الديكارتي لأولية ألروح على الجسد.

في منظور نيتشه مايجب اعتباره، ما له الأولية على الجسد : كل شيء يمر عبر الجسد، وكل فكرة منه تنبثق، وكل وعي يصبح بواسطته ممكناً، وما الروح إلا إفراز بسيط للجسد، ولعلها مجرد تضخم وهمي للذات، على الإنسان المتيَّقظ أن يعرف كيف يفضحه. في هكذا تكلم زرادشت يُعلن البطل على لسان نيتشه : "لكن الإنسان المتيقظ الذي يعلم يقول : أنا جسمٌ حتماً ولا شيء آخر، وما روحي إلا كلمة لتعيين حالة للجسد. إنما الجسد عقلٌ هائلٌ، تعددية ذات معنى واحد، حربٌ وسِلمٌ، قطيعٌ و راعٍ".




 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش