أين كلّ شيء شكّلني وألّفني على ما أنا عليه؟ الدكتور شريف مبروكي
مع التقدّم شيئاً فشيئاً في السنّ لم يعد ما يُضني النفس ويُكربها هو انحسار المستقبل وشحوب أفاقه، "فالمستقبل شيءٌ نادرٌ" كما يقول رونيه شار
ولا ضنك العزلة وضعف الرغبة في الالتحام بأشياء العالم والاشتباك العبثي مع مفاهيمه وترهاته، ولا خيانات البدن المتلاحقة، ولا خيبات الأمل الضرورية لحيوية العقل، فهذه كلّها من طبيعة الأمور ومن جوهر الصيرورة، بل ما يضني حقاً هو الشعور" بانتهاء الماضي وتلاشيه التدريجي" من حولك، وكأنّ المرء قد انبثق لتوّه من هوة سحيقة سرعان ما اختفت وأخذت معها كلّ شيء، وكأنّها لم تكن.
فيتساءل أين كلّ شيء شكّلني وألّفني على ما أنا عليه؟ أين كلّ ذلك الذي كنته؟ أين هم؟ أين كلّ تلك النساء والرجال الذين تقاطعت معهم،؟ أين عوالمي، أين أحلامي، أين عبثي ومراهقتي وحماقاتي؟أين غبائي الجميل، وعفويتي الطائشة؟
فيدرك أنّ الإنسان، رغم انّه مقذوف به نحو المستقبل، هو في الواقع رهينة ماضيه، نعم ولا شيء آخر، وتلك هي تراجيديته الأساسية.
وإذا عدتُ إلى برغسون (وغالباً ما أفعل) فسأقول أنّ "الإنسان" لا يعيش الحاضر أبداً، بل هو يقيم دوماً في ماضٍ مستمرّ في الحاضر (على عكس كلّ الكائنات الطبيعية الأخرى)، ماضٍ لا ينتهي، ولكن ذلك التوتر الزماني، تلك الديمومة تأخذ، بفعل الزمان، في التراخي والتبلّد والانعطاب، فيبدأ المرء يشعر رويداً رويداً بفقدان الصلة الحيّة بماضيه، ماضي جسده وروحه ومعيشه وأشيائه الأليفة وأصدقائه وذويه، أي كلّ ذلك العالم الذي شكّل كينونته وزودّه بديمومة وهوية وذاكرة.
فالمرء ليس فرداً، أنا منحسر على ذاته، بل هو كل أولئك الآخرين الذين تعايش بينهم وفي كنفهم، وكل تلك الأشياء التي ألفها وألّفته، إنه كل شيء كان فيه وانصرم منه واضمحلّ.
انتابتني هذه الرؤية الميلانخولية بعض الشيء وأنا أعيد قراءة بعض مقاطع من minima moralia (تأملات عن حياة مبتورة) لثيودور أدورنو .
تعليقات
إرسال تعليق