المشي فلسفة


 


لعل أزمة عالمنا المعاصر تكمن في محدودية أفقه وضيقه. فعلى رغم انفتاحنا على العالم بأسره من خلال تطور وسائل أو شبكات التواصل الاجتماعي المستمر والتطور التكنولوجي السريع، نبقى مأسورين ومحدودين في مكان وزمان خاضِعَين للهندسة والقياس. من غرفة ضيقة، ومن خلال شاشة صغيرة، نطل على عالم وهمي تبقى الشاشة حاجزاً بيننا وبينه، كما تبقى حجاباً للفكر الذي يختبر أمامها محدوديته، فنعيش على مسافة من الأشياء من دون لقاء فعلي يلمس داخلانيتنا. في ظل هذه الأزمة، شدد بعض الكتاب وعلماء النفس والفلاسفة على أهمية المشي الذي ليس مجرد رياضة كما يقول الكاتب الفرنسي المعاصر فريدريك غرو في بداية كتابه "المشي: فلسفة". فالسير على الأقدام يحرر الإنسان المعاصر ويشكل خلاصاً له، إذ يفكك القيود الاجتماعية والحواجز التي تحول دون لقائه مع نفسه ومع الطبيعة المحيطة به. فالمشي معنى واختبار لمفهوم فلسفي شغل الفلاسفة منذ القديم وما زال يشغلهم، وهو مفهوم "الحرية".

يرى بعض الفلاسفة أن فن المشي لا ينبغي يتعلق بهدف أو رغبة في الوصول إلى وجهة معينة ، بل أن يمارس من أجل التجربة الجماليّة الخالصة التي لا غرض منها ، فكما يقول إيمانويل كانط فإنّ ابتداع وتقدير الجمال متمثل في «الغائيّة من دون غاية»،  بينما نجد العديد من مُفكري التاريخ قد ربطوا جودة أفكارهم  و صحة أجسادهم بانتظام حركة أقدامهم، منهم على سبيل المثال:


نيتشه:  «وحدها الأفكار التي تأتي من خلال المشي هي التي يمكن أن تملك أيّة قيمة»

أرثر رامبو: «المشي وسيله للهروب من قيود المجتمع و أقتحام المجهول»

ميشيل دو مونتيني: «ترقد أفكاري إذا أقعدتها. ولا يعمل ذهني ما لم تحرّكه الساقان»

ابن سينا:  «مسكنات الأوجاع : المشي الطويل والانشغال بما يُفرح الإنسان»

في كتاب "الخلود" لكونديرا يقول:


في المشي معنى واختبار لمفهوم فلسفي شغل الفلاسفة منذ القديم وما زال يشغلهم، وهو مفهوم "الحرية". يعيش السائر قطيعة مع قيود العالم المادي الذي يأسره، ومع الحضارة وأقنعتها التي جعلت الإنسان غريباً عن حالته الأولى وعن شفافية داخلانيته. يعتبر غرو أن "النفس (...) ترافق الجسم بمعنى أن المرافقة هنا هي نقيض الإرادة"، أي أن تزامناً يوجد بين إيقاع النفس وإيقاع الجسم والعالم، فيعود الإنسان إلى ما هو أصلي، أولي، كالهواء والسماء ليستقبل طاقة استلبتها العادات والمادة والمجهود الذي يقوم به الإنسان للتأقلم مع متطلبات العالم. فلا يعود أسير السرعة وأسير الزمن الذي يصبح مع حركة الجسم في الطبيعة انعكاسياً. من هنا يعتبر غرو أن الإنسان يختبر الأبدية في المشي لأن الزمن يصبح أبطأ؛ تطول اللحظة لتتخطى الوقت.


في هذا الإطار، يقول الكاتب أن "المشي دعوة إلى الموت وقوفاً"، إنه دعوة ليسير الإنسان ببطء في قلب عالم مُبرمج. ويشدد غرو في كتابه، على الوحدة والصمت اللذين يختبرهما السائر. الوحدة هنا ليست إكراهاً وعزلة، بل هي تفكك ضروري لبعض الروابط الاجتماعية والتقنية من أجل أن يعود الإنسان إلى ذاته، إلى الصمت الذي ليس مجرد غياب الضجيج، بل هو "ذبذبة"؛ إنه نبض الجسم في انتظام مجهوده. واللافت أيضاً هو التمييز الذي يقوم به غرو بين الرتابة monotonie والملل ennui. في حالة الملل لا يعرف الإنسان ماذا يفعل، إنه يكرر الشيء نفسه، ولكن من دون هدف ومن دون أمل، إنه في انتظار شيء يجهله، كما يشعر بالوقت وكأنه فراغ وثقل. أما الرتابة فهي أن يقوم الإنسان بالشيء نفسه وهو يعرف تماماً الغاية من ذلك.


في الرتابة تكرار يحرر. عندما يمشي الإنسان يضع قدماً أمام القدم الأخرى، وتتكرر هذه الحركة في رتابتها التي يشبهها غرو بالتنفس الذي يتغذى من ذاته. وفي هذا التكرار مكافأة إذ يعيش السائر في ألفة مع الطبيعة ومع جسده في قلب زمانية لا ملل فيها. ويستعيد غرو هنا مفهوماً استخدمه الأبيقوريون وهو مفهوم "الامتنان". فالسائر "يستقبل" جمال الطبيعة ويتلقاه كعطية ومكافأة بعد مجهود كبير قام به وكأن هذا الجمال موجه إليه تحديداً ويخاطبه، فيشعر بالامتنان، بنوع من الامتنان المتحرر من العبودية والاستعباد ورد الجميل. فالـمسافة التي يعبرها الإنسان سيراً على الأقدام تُصبح في قلب جسده وليس فقط مجرد مشهد خارجي ممتع. ويحل التعب كعطية ومكافأة. يعطي غرو هنا مفهوماً جديداً للتعب. ليس التعب هنا فكرياً نتيجة مجهود فكري قام به الإنسان، ولا هو تعب ناجم عن القلق والخوف والضغوط النفسية وضغوط الحياة بمختلف أشكالها، ولا هو تعب سببه الآخرون أو حياة لا مفاجآت فيها، بل هو تعب مرتبط برتابة الخطوات، "يجلو الجسم" الذي يرتاح وينام على أقدام النفس بحسب تعبير الكاتب.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش