من كتاب على مقهى الوجودية
إذا كان هذا هو الحال فمن الممكن إذن إنعاش منظورنا بإعادة النظر في الوجوديين أصحاب الجسارة و الحيوية فهم لم يعكفوا على اللعب بدوالهم بل أثاروا الأسئلة الكبرى عما يعنيه عَيش حياة بشرية أصيلة تماماً قُذِفت إلى عالم فيه بشر آخرون يحاولون العيش أيضاً كما أثاروا أسئلة عن الحرب النووية و كيف نسكن بيئتنا و أسئلة عن العنف و مصاعب إدارة العلاقات الدولية في الأوقات الخطرة و تاق العديد منهم إلى تغيير العالم فتساءلوا عن التضحيات التي قد نبذلها أو لا نبذلها من أجل هدف كهذا ، أما الوجوديون الملحدون فتساءلوا عن كيف نستطيع العيش بطريقة ذات معنى في غياب الله و كتبوا جميعهم عن القلق و تجربة الوجود الذي يفرض الإختيار في كل لحظة و هو إحساس صار أكثف من الماضي في مناطق من عالم القرن الحادي و العشرين تتمتع برفاهية نسبية بل في وقت تعطلت فيه خيارات العالم الحقيقي بشكل يثير قلق البعض منا ، كان الوجوديون قلقين بشأن المعاناة و اللامساواة و الإستغلال فتساءلوا عما إذا كان بالمستطاع عمل أي شيء بإزاء هذه الشرور و من ضمن هذه الأسئلة : تساءلوا عما يستطيع الأفراد عمله و ما يجب عليهم هم أنفسهم أن يقدموه ، تساءلوا أيضاً عما يكونه الموجود الإنساني بالنظر إلى تزايد المُهم المتطور ، الفسيولوجيا الدماغ و كيمياء الجسد فإذا كنا مُسيرين بخلايانا العصبية و هرموناتنا فكيف نستمر على الإعتقاد بأننا أحرار ؟ ما الذي يميز البشر عن الحيوانات الأخرى ؟ هل هو مجرد اختلاف في الدرجة ، أم هل نحن متميزون حقا بطريقة من الطرق ؟ و كيف ينبغي أن نفكر في أنفسنا ؟ و في المقام الأول تساءلوا عن الحرية التي إعتبرها العديد منهم الموضوع الكامن خلف كل الموضوعات الأخرى ففسروها بشكل شخصي و سياسي على السواء و في السنوات التالية على تراجع الوجودية أسدل الستار على الحرية في مناطق من العالم ربما لأن حركات التحرير الكبرى في خمسينيات القرن العشرين و ستينياته حققت الكثير على مستوى الحقوق المدنية و إنهاء الإستعمار و مساواة النساء و حقوق المثليين فبدا الحال كما لو أن هذه الحملات حصلت على ما أرادت و أنه لا مجال للحديث عن سياسة التحرير و لكن الأكاديمي الفرنسي ميشيل كونتا Michel Contat في مقابلة تلفزيونية معه عام 1999 عاد إلى سارتر في ستينيات القرن العشرين بوصفه الشخص الذي منحه و منح جيله معنى الحرية التي وجهت حياتنا ثم أضاف على الفور أن موضوع الحرية لم يعد يحظى بالكثير من الإهتمام كان هذا منذ ستة عشر عاما في الوقت الذي كنت أكتب فيه و منذ ذلك الحين بدأ رفع الستار عن الحرية مرة أخرى لقد وجدنا أنفسنا مراقبين و مَقودين بدرجة غير عادية و مؤطرين ببياناتنا الشخصية و معلوفين بسلع إستهلاكية تثبطنا عن حديث العقل أو عن فعل أي شيء إنتهاكي تدميري في العالم و يتم تذكيرنا دائماً بأن الصراعات العرقية و الجنسية و الدينية و الأيديولوجية ليست قضايا مغلقة إطلاقاً فلعلنا مستعدون للحديث عن الحرية مرة أخرى و يعني الحديث عنها سياسياً الحديث عنها في حياتنا الشخصية أيضاً ذلكم هو السبب في أننا عندما نقرأ ما كتبه سارتر عن الحرية أو بوفوار عن ميكانيزمات [ آليات القمع الماكرة ] أو كيركجارد عن القلق أو كامو عن التمرد أو هيدجر عن التكنولوجيا أو ميرلوبونتي عن علم الإدراك نستشعر أحيانا أننا نطالع آخر الأخبار ففلسفاتهم لا تزال تحظى بأهمية ليس لأنها صحيحة أو خاطئة بل لأنها تهتم بالحياة و تثير أكبر سؤالين إنسانيين : من نحن و ماذا ينبغي أن نفعل ؟ عندما يثير الوجوديون هذين السؤالين يُركن معظمهم ( و ليس كلهم ) إلى تجربتهم الحياتية الخاصة ، إلا أن هذه التجربة بحد ذاتها متركزة حول الفلسفة و يلخص ميرلوبونتي هذه العلاقة قائلاً : « الحياة تصير أفكاراً ، و الأفكار تعود إلى الحياة » و تتضح هذه الصلة وضوحا كبيراً حين يتحدثون عن الأفكار مع بعضهم البعض و هو ما كانوا يفعلونه طوال الوقت و كما يقول ميرلوبونتي أيضا : المناقشة ليست تبادلاً للأفكار أو مواجهة بينها كما لو أن كل واحد يُشكل أفكاره ثم يعرضها على الآخرين فينظر فيها ثم يعود ليصححها منفرداً فسواء جهر بها كل واحد منا أو همس فهو يتحدث مع الجميع بأفكاره بل بكل هواجسه و تاريخه الدفين .. كانت المحادثات الفلسفية بين المفكرين و قد إستثمروا معظمها في أعمالهم إنفعالية غالباً و أحياناً جدلية تماماً و تشكل معاركهم الفكرية سلسلة طويلة من المواقف العدائية التي تربط طرفاً من القصة الوجودية بطرف ، في ألمانيا إنقلب مارتن هيدجر على أستاذه السابق إدموند هوسرل ثم في وقت لاحق إنقلب أصدقاء هيدجر و زملاؤه عليه و في فرنسا هاجم جابرييل مارسيل جان بول سارتر و تخاصم سارتر مع ألبير كامو و تخاصم كامو مع ميرلوبونتي و تخاصم ميرلوبونتي مع سارتر و تخاصم المفكر المجري آرثر كوستلر Arthur Koestler مع الجميع ، بل ضرب كامو في الشارع ثم حين تقابل عملاقا الفلسفة في البلدين سارتر و هيدجر أخيراً في عام 1953 كان لقاؤهما سيئاً ثم بعد اللقاء أخذ كل منهما يذكر الآخر بسخرية أكثر من أي وقت مضى و مع ذلك نشأت علاقات أخرى حميمة للغاية و أشدها حميمية كانت بين سارتر و بوفوار ، اللذان قرأ كل منهما عمل الآخر و كانا يتناقشان حول أفكارهما كل يوم تقريباً ، بوفوار و ميرلوبونتي كانا أصدقاء أيضا منذ سنوات مراهقتهما و سارتر و بوفوار فُتنا بكامو حين قابلاه أول مرة .. الأفكار بوجه عام هي السبب في تدهور هذه الصداقات و معظمها أفكار سياسية غالباً فقد عاش الوجوديون في أوقات الإيديولوجيا المتطرفة و المعاناة القاسية و تفاعلوا مع الأحداث في العالم سواء أرادوا ذلك أم لا و عادة كانوا يريدون و لهذا السبب قصة الوجودية هي قصة سياسية و تاريخية و إلى حد ما قصة قرن أوروبي كامل ، ظهرت الفينومينولوجيا أولاً في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى و تطورت خلالها ثم إنبثقت فلسفة هيدجر من موقف ألمانيا المضطرب العصيب بين الحربين و حين ذهب سارتر إلى برلين في عام 1933 رأى مسيرات النازية و راياتها في كل مكان فتسرب مزاج القلق إلى عمله نمَت وجودية سارتر و وجودية بوفوار أثناء الحرب العالمية الثانية مع التجربة الفرنسية في الهزيمة و الإحتلال ثم إستمرا في ملىء أشرعتهما بتوقعات جامحة لعالم ما بعد 1945 ثم تدفقت الأفكار الوجودية في المجرى الواسع لمناهضة الأعراف الجارية طوال خمسينيات القرن العشرين ثم في مجرى مثالية مزدهرة أواخر ستينيات القرن العشرين ، في تلك الأثناء غير الوجوديون تفكيرهم مع تغير العالم فأبقت تعديلاتهم المستمرة للإتجاه على أهميتهم و إن لم يكن بشكل مطرد.
(سارة بكويل / كاتبة و مفكرة بريطانية)
تعليقات
إرسال تعليق