المواقــف العبثيـــة \ علي خليفة

 



المواقف العبثية هي مواقف لا تخضع للمنطق والعقل، ويتم فيها حدوث أفعال غريبة تثير الدهشة، وتدعو للضحك.

وكثيرًا ما نرى هذه المواقف العبثية في مسرحيات كتاب العبث، وأكثر مسرحيات كتاب العبث تقوم على مواقف عبثية تدعو للضحك في ظاهرها، ولكنها في باطنها وعند تعمق دلالاتها نرى أنها تشير إلى كثير من أزمات الإنسان في العصر الحديث، ومنها تفسخ العلاقات الإنسانية، وعدم قدرة الإنسان على التواصل مع أحد؛ ولهذا فإنه ينعكف على نفسه 

– كما نرى في مسرحية "شريط كراب الأخير" لصمويل بيكيت – 

وقد يقوم هو بنفسه بعمل سواتر تعزله عن غيره؛ لأنه لا يرى جدوى من تواصله مع أحد – كما نرى في مسرحية "الساكن الجديد" ليونسكو –.

والحقيقة أن المواقف العبثية هي أساس الكوميديا في مسرحيات كتاب العبث، ولكننا نرى فيها عناصر كوميديا أخرى، مثل الأنماط الكوميدية، كنمط الجارة الفضولية الثرثارة التي نراها في مسرحية "الساكن الجديد" ليونسكو، وكذلك نرى من عناصر الكوميديا 

في هذه المسرحيات توظيف المفارقة، والتكرار، وغير ذلك.

ونرى في بعض المسرحيات لغير كتاب العبث بعض المواقف العبثية 

في بعض المسرحيات التي كتبوها، كما نرى في مسرحية "بادن بادن التعليمية" لبريشت في الفاصل الذي عرضه فيها، وفي هذا الفاصل يقوم مهرجان بتقطيع أجزاء من جسد زميل لهما يشعر ببعض الآلام في جسده، والغريب في الأمر أنهما كلما قطعا جزءًا شعر بقدر من التحسن، ويقطعان خلال ذلك يديه وقدميه ورأسه، وهو مشهد عبثي، سبق به بريشت كتاب مسرح العبث في كتابتهم مسرحياتهم التي تقوم على مواقف عبثية.

وفي اعتقادي أن يوجين يونسكو هو أكثر كتاب مسرح العبث توظيفًا للمشاهد العبثية التي تثير الضحك في مسرحياته، وكان يهدف من ورائها للمعاني التي ذكرتها في بداية هذا المقال.

ومن المواقف العبثية في مسرحيات يونسكو أننا نرى في مسرحيته العبثية الشهيرة "المغنية الصلعاء" زوجين يزوران أسرة إنجليزية، وحين يصلان لبيتها يقول الزوج لزوجته – في موقف غريب –: إنه قد رآها 

من قبل، فترد عليه الزوجة: بأنها متأكدة أنها لم تره من قبل، ويأخذ 

في سؤالها عدة أسئلة، وتجاوبه عنها، ومن ذلك سؤاله لها عن اسمها والقطار الذي ركبته ورقم المقعد في ذلك القطار، ونفهم من حوارهما هذا أنهما قد ركبا قطارًا واحدًا وفي مقعدين متجاورين، وأنهما يسكنان 

في شقة واحدة، وعلى الرغم من اتفاقهما في كل هذا فإن هذه الزوجة تقول لزوجها: إنها لم تره من قبل.

وفي مسرحية "فتاة في سن الزواج" ليونسكو نرى موقفًا آخر عبثيًّا يدعو للضحك، ففي هذه المسرحية يجلس رجل وامرأة مسنان على مقعد بحديقة عامة، ويتبادلان الحديث في أمور عادية، ويدير الرجل دفة الحديث، وتوافقه المرأة على كلامه الذي يناقض بعضه بعضًا أحيانًا، وتتحدث المرأة عن ابنة لها في سن الزواج، وفي نهاية المسرحية يظهر شاب، وتقول المرأة للرجل عن هذا الشاب: إنه ابنتها التي في سن الزواج.

وكذلك نرى موقفًا عبثيًّا يدعو للضحك في مسرحية "مشهد لأربعة" ليونسكو، ففي بداية هذه المسرحية يتناقش شخصان، ولا يعرضان ما يتناقشان فيه، ولكن كل واحد منهما يتهم الآخر بأنه لا يفهم قصده، ويسيء الحوار، ومن الواضح أنهما لم يكونا يتناقشان أساسًا؛ لأنهما عاجزان عن التواصل، مثل باقي الشخصيات في مسرحيات يونسكو، ويدخل شخص ثالث على هذين الشخصين، ويطلب إليهما في البداية أن يتروَّيا؛ حتى يستطيعا عرض حججهما، وبعد ذلك يشاركهما ذلك الشخص في أنه متهم بأنه لا يفهم قصد كل واحد منهما، ثم تدخل عليهما فتاة، ويدعي كل واحد منهم أنه خطيبها، وتسر بذلك في البداية، ثم تتضايق من تكالبهم عليها، وتنتهي المسرحية بقولها للجمهور: كل الذي رأيتموه خبل.

وأيضًا نرى في مسرحية "الكراسي" ليونسكو موقفًا عبثيًّا يثير الضحك، ففي هذه المسرحية يستقبل رجل وزوجته عدة أشخاص وهميين، ويتخيلان أنهم يجلسون على مقاعد، وينتظر الرجل وزوجته شخصًا سيتحدث عن كفاحهما، وتكون المفاجأة في هذا الموقف العبثي أن الشخص الذي سيتكلم عنهما هو أخرس.

ومن المواقف العبثية التي تدعو للضحك والاندهاش أيضًا أننا نرى في مسرحية "الخرتيت" ليونسكو أن الأشخاص المنطقيين والأشخاص الذين يحرصون على الانضباط في حياتهم هم الذين يتحولون سريعًا لخراتيت؛ لأنهم يريدون أن يفرضوا على الحياة نظامًا لا يتفق معها – حسب اعتقاد يونسكو – في حين أن الأشخاص الفوضويين والبوهيميين في هذه المسرحية – مثل: بيرانجيه – يبقون على حالتهم؛ لأنهم بأسلوبهم البوهيمي هذا في الحياة صاروا أقرب للخراتيت؛ ولهذا فهم ليسوا بحاجة لأن يتحولوا لخراتيت.

ونرى في بعض مسرحيات أرابال العبثية بعض المواقف العبثية التي تثير الضحك، وتدعو للتفكير، ومن ذلك أننا نرى في مسرحية "الناسك" رجلاً وامرأة اعتادا على عمل أفعال الشر، ومنها القتل، ويشعران بالملل 

من ذلك، فيفكران في أن يكونا طيبين لفترة، وتسأل المرأة الرجل: 

من الطريف فعلاً أن نحاول أن نكون طيبين، وإن كنت لا أعرف ما الذي يمكن أن أفعله لأكون طيبة؟! ويوضح لها الرجل بعض الأفعال التي 

لو قاما بها صارا طيبين.

وأعتقد أن أرابال يقصد بذلك أن الإنسان – من وجهة نظره – مفطور على الشر، ومن السهل لهذا أن يقوم بالأفعال الشريرة، ويرتكب الجرائم، ولكن من الصعب عليه أن يكون طيباً؛ لأن هذه الطيبة تتنافى مع طبيعته.

ونرى في بعض مسرحيات توفيق الحكيم التي اشتهرت بأنها تنتمي لمسرحيات اللامعقول – وتأثر فيها بكتاب مسرح العبث الغربي – بعض مواقف عبثية تثير الضحك.

ففي مسرحية "يا طالع الشجرة" لا يهتم بهادر بزوجته بهانة قدر اهتمامه بشجرته، بل إنه يقتل زوجته، ويرغب في أن يدفن جثتها أسفل شجرته؛ ليسمدها بها، فتنتج له ثمارها الغريبة التي يتخيل أنها ستثمرها عند ذلك. وفي مسرحية "رحلة قطار" يتوقف القطار حين اشتبه على سائق القطار ومساعده تحديد لون الإشارة التي تلوح لهما، ويستغل ركاب القطار ذلك في الغناء والرقص.

ونرى في مسرحية "كل شيء في محله" لتوفيق الحكيم عدة مواقف عبثية تثير الضحك، فنرى فيها حلاقًا يحلق ذقن زبون أصلع، ويلمح له بأنه سيقطع رأسه التي تشبه البطيخة، فيفر الزبون من أمامه، ولم يكمل له ذلك الحلاق حلاقة النصف الثاني من ذقنه.

وأيضًا من المواقف الغريبة في هذه المسرحية أننا نرى الحلاق مع البوسطجي يلعبان لعبة غريبة، ويصر كل واحد منهما على أن يكون الحمار فيها، ومن المواقف الغريبة أيضًا في هذه المسرحية التي تثير الفكاهة أن ذلك البوسطجي يعطي أي شخص يقابله أي خطاب أمامه، وحين جاء إليه شاب يسأل عن خطاب ينتظره، طلب إليه البوسطجي أن يسحب أي خطاب أمامه موجود في طاسة الحلاق، ويتصادف أن يكون الخطاب الذي أخذه ذلك الشاب مرسلاً من فتاة تخبر خطيبها فيه أنها ستأتي هذا اليوم إلى محطة القطار في تلك القرية، وتطلب إليه أن ينتظرها عليها، ويطلب الحلاق والبوسطجي إلى ذلك الشاب أن يذهب لانتظار هذه الفتاة، ويفعل ذلك، ثم يأتي وهو مصطحب هذه الفتاة راغبًا في الزواج منها، وترفض في البداية، ثم توافق، وتقام زفة غريبة لهما.

وهي مشاهد عبثية متتالية في هذه المسرحية تثير الضحك، وتؤكد أن كل شيء ليس في موضعه، وقد كتب توفيق الحكيم هذه المسرحية قبل حرب 67 بقليل، وهو ينتقد فيها أوضاعًا عبثية في المجتمع كانت تنذر بحدوث الهزيمة في تلك الحرب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش