نيتشه يعيد الإنسان إلى وضعه الأصلي
لقد أعدنا النظر في كل ما تعلمنا. وغدونا أكثر تواضعاً في كل أمر. لم نعد نربط الإنسان بأصل واقع في ( الروح ) وفي ( الألوهية ) بل أعدناه إلى موقعه بين الحيوانات. فهو الحيوان الأقوى بالنسبة لنا، لأنه الأكثر مكراً، وإحدى نتائج ذلك هي ملكته العقلية. كما أننا نحترس من جهة أخرى من ذلك الغرور الذي مازال يريد أن يُسمَع صوته من جديد هنا أيضاً، كما لو أن الإنسان يمثل النية الخفية العظمى التي كانت تقود مسار التطور الحيواني. فهو ليس تتويجاً للخليقة بأي حال، وكل كائن من الكائنات التي من حوله يقف على نفس الدرجة من الكمال إلى جانبه. وبتأكيدنا لهذا الأمر، تجدنا نمضي إلى أبعد من هذا أيضاً، إلى اعتبارٍ مفاده: أن الإنسان هو الحيوان الأكثر إعاقة والأكثر هشاشة، وهو المنحرِف عن غرائزه على نحو أكثر خطراً، ومع ذلك كله فهو بحق الأكثر مثاراً للاهتمام أيضاً. وفيما يتعلق بالحيوان فإن ديكارت كان أول من تجرأ بشجاعة جديرة بالاحترام على فكرة اعتبار الحيوان كآلة Machina : طرحٌ مازالت علومنا الفزيولوجية تجتهد في محاولة إقامة الدليل على صحته. وهنا أيضاً فإننا بطبيعة الحال لا نستثني الإنسان كما يفعل ديكارت. ففهمنا اليوم للإنسان لا يتعدى ما نفهمه عنه كآلة. في ما مضى مُنح الإنسان حرية الإرادة كهدية موهوبة له بموجب قانون سماوي، أما اليوم فقد سحبنا عنه حتى الإرادة، بمعنى أنه لم يعد بحق اعتبارها ملكة. في ما مضى كان يُرى في وعي الإنسان وفي عقله دليلاً على أصله السامي، وعلى ألوهيته، ولكي يُرتَقى به إلى مستوى الكمال، كان يُنصَح بأن يعمل على غرار السلحفاة على سحب حواسه إلى الداخل، وأن يقطع كل علاقاته مع الأشياء الأرضية، وأن ينسلخ عن القشرة الفانية. وهكذا لا يتبقى منه غير العنصر الجوهري : الروح الخالصة.
إنْ نحنُ طرحنا الجهاز العصبي والحواس من حسابنا، سنكون قد أخطأنا كل حساباتنا، لا أكثر ولا أقل.
فريدريش نيتشه، نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل : بيروت، ٢٠١١.
تعليقات
إرسال تعليق