اختفاء الذات عن نفسها \ دافيد لوبروتون


 


الأنوريكسيا (مرض الامتناع عن الأكل) تربية ومران على الوجود، وحياة زاهدة تمارس في كل لحظة وحين، إنها مقاومة بلا هوادة ضد الذات وضد الآخرين حتى تتسنى تقوية القلعة الداخلية. إذ تبذل المصابة قصارى جهدها كي يبلغ جسدها حدوده القصوى. إنها إرادة لتحقق جسد من دون جسد، لكنها رغبة في التحرر أخيرا من كل ولاء لجسد الأمومة وللروابط الاجتماعية. فلا تبلغ قط درجة النحافة الكافية التي تخول لها التوقف عن مطاردة أي أثر للأمومة فيها مهما كان بسيطا. فتتَّبع نظاما جذريا للحصول على جسد يخصها هي بالتحديد، ويكون من أجلها هي، لا يدين إلا لها من خلال منطق الولادة الذاتية. إنها ترمي إلى أن تأتي إلى العالم من تلقاء ذاتها، إلا أن جسدها يشكل عائقا تسعى إلى الاحتيال عليه. والطعام هو حصان طروادة لجسد الأمومة. لذلك يصعب ابتلاعه كثيرا.

الأنوركسيا هي نوع من الحكم الإلهي المسجل في الديمومة. فالمراهقة تجعل الموت معلقا، وتراقبه بوضع وجودها في الميزان، وتذهب أحيانا إلى أقصى حد بقبول قاعدة للعب وهي أن تؤدي، دون تردد، ثمن سعيها نحو مشروعية وجودها من حياتها. إن الأنوريكسيا ليست تعبيرا عن نية الموت، ولكنها نوع من اللعب بالموت الذي يذوب في الزمان عبر الامتناع، والغياب، والبياض. وهذه الطريقة في مواجهة الموت بوقاحة لا تتنافى مع الإحساس بالخلود لدى المصابة، والقدرة على البقاء دائما على شفا حفرة دون سقوط في الضياع. فإذا كان الموت أحيانا هو نهاية الطريق (تقدر نسبة الوفاة بحوالي 10% من بين المصابات) فإن الأمر لا يتعلق نهائيا بالرغبة في الموت، إذ تتنكر المصابة لخطورة حالتها فترفض العلاج وتثور في وجه الأطباء أو المعالجين الذين يرغبون في جعلها تغيّر موقفها تجاه العالم. إنها تتساءل عن الجدوى من وجودها. وتطرح السؤال حول هويتها الاجتماعية كامرأة بحدة قد تؤدي بها إلى الموت.

إذا كانت الأنوريكسيا دليلا على معاناة الألم، فإنها تفصح أيضا عن شكل من المقاومة غير المدركة ناتجة (كخدش الجلد أو وصمه أو السمنة) عن مواجهة نموذج مختزل عن الأنوثة. وقد كان س. ماكلود S. Macleod في عهده يتحدث عن إضراب موجه ضد موقف والديْ المصابة. واليوم تشير الأنوريكسيا أكثر فأكثر إلى انتقاد بواسطة الجسد لنموذج اجتماعي ضاغط للأنوثة، ولو أنها تتحدد أيضا بالصعوبات المتعلقة بالروابط الأسرية. إن الأنوريكسيا تفعيل لسخرية حادة إزاء الخطابات حول النحافة، وهي تدفع بمنطقها إلى أبعد حدّ إذ تتحدث المصابة بواسطة جسدها عن ألم التمثلات التي تُفرض عليها. ليس لأن هذه المقاومة بالفعل واضحة بيّنة، بل إن هناك عوامل أخرى تفعل فعلها. (بروش Bruch 1979  ) إنها مثلها مثل فنانة البودي آرت، فن الجسد. تسائل التمثلات الاجتماعية مصدر الألم بالنسبة إلى لمراهقات اللواتي لا يجدن أنفسهن في هذا النموذج من الإغراء، أو أنهن يخضعن له عبر الكثير من الحرمانات . وهكذا تريد المصابة أن تتحد بجنس ثالث، أو بالأحرى بجنس يكون خاصا بها، يبقيها خارج كل تحديد جنسي في بحث شغوف عن الاستقلالية وعن التخلي، والانفصال عن الروابط الاجتماعية. يضيف س. ماكلود: «لا أريد أن أكون امرأة لأنني أريد أن أكون أنا بالذات، وهذا تأكيد لا منطقي، لكنني أدحض المنطق بأن أصير مصابة بالأنوريكسيا [...] بقدر ما تصبح حدود جسدي دقيقة بقدر ما أشعر بانبثاق الأنا الحقيقي لذاتي. مثلما يجعل النحات تمثال الرجل العاري، ينبجس شيئا فشيئا محفورا على كتلة الحجر الخام» (1982، 97). يدخل الانتشار الواسع للأنوريكسيا اليوم في المنظور المابعد حداثي عن طريق الرغبة في أن يشكل المرء بنفسه جسده الفريد من نوعه، بعيدا عن كل مواضعة اجتماعية لكن دون أن يدين بأي شيء للتقنية. إنه جسد من شأنه أن يقتصر على الإرادة الذاتية المستميتة، وهي روحانية حميمة مستغنية عن كل عون خارجي (لوبروتون، 2012). 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش