رواية حالة الدكتور حسن \ إحسان عبدالقدوس

 



- نعم .. منذ مدة طويلة تنتابه حالات مرضية عجيبة .. إنـه فجأة يفقـد القـدرة على الكلام .. ويبدو كأنـه أصيب بالشلل .. لسانه يثقل إلى حد لا يستطيع تحريكه، وتنتاب يده اليمنى رعشـة .. وتستمر هذه الحالة يومين أو ثلاثة .. ثم تنتهي .. تنتهي فجأة أيضا .. ومنذ عامين ونحن نطوف على الأطباء، في مصر والخارج.. وأكدوا كلهـم أن ليس بـه

شيء عضوي يمكن أن يؤدى إلى هذه الحالة .. كل التحاليل وصور

الأشعة أثبتت سلامـة قلبـه، وسلامة جسده. وأجمع ثلاثة من الأطباء على أن هـذه الحالة قد تكون نتيجة أزمة نفسية.


وسكتت وهي تتنهد، وعلى وجهها مسحة من الأسى وقلت وأنا أحاول أن أخفف عنها:

– هذا محتمل .. إن الأزمات النفسية تشتد أحيانا إلى حد أن تؤثر في بعض مراكز المخ ، فتصاب بعض أعضاء الجسد بالشلل المؤقت.


قالت:

- أعرف ذلك .. ولكن المشكلة هي أن زوجي يرفض أن يذهب إلى طبيب نفساني.


-هذه مشكلة كثير من المثقفين .. إنهم قد يؤمنون بعلم النفس، ويقتنعـون بـه .. ولكنهم لا يـؤمـنـون بـالأطباء النفسانيين ولا يقتنعون بهم.


قالت كأنها تلومني:

-لمـاذا ؟

قلت:

- إنه نـوع من الغـرور الثقافي .. والواقـع أن الانسان لا يذهب إلى الطبيب ليشخص له مرضه، ولكنه يذهب إليه ليصف له الدواء.. إن الانسان يعرف غالبا مرضه .. يعرف أنه مصاب في كليته .. أو في أمعائه .. أو أن إصبعه مجروح.. ولكنـه لا يعـرف الـدواء .. لأن معـرفـة الـدواء تحتاج إلى تخصص .. ولأن استعمال الـدواء يحتاج إلى الحرص ، وقد يكون خطرا .. لذلك يذهب المريض إلى الطبيب ليصف لـه الدواء ، ويتناوله وهو واثق من أنه لا يتعرض لخطر .. أما طب النفس فليس فيه دواء .. ليس هناك أدوية لشفاء النفس كالأدوية التي تشفى الصداع، والزكام، والمغص .. إنه طب يقوم على التشخيص وحده .. أو التحليل.


قالت كأنها تريد أن تقنعني بأهميتي:

- ولكن التشخيص أيضا يحتاج إلى طبيب!


قلت وأنـا ابتسـم لأطمئنهـا إلى أني لم أفقـد إحسـاسي بأهميتي:

-هذا ما قصدته بتعبير الغـرور الثقافي .. فنظريات علم النفس، وتجارب علم النفس، أشبه بالقصص المثيرة .. إنها تجذب كثيرا من القـراء .. وكتب علم النفس تباع في المكتبات وعلى الأرصفة، كما تبـاع قصص أرسين لوبين والفـرسـان الثلاثة.. وقد كان علم النفس يعتبر إلى عهد قريب نوعًا من الثقافة العامة أكثر منه علمًا يحتاج إلى تخصص، لذلك

فأكثـر المثقفين يعتقدون أنه يكفيهم أن يقرأوا كتبـا في علم النفس، ليستغنوا عن الطبيب النفسـاني .. والـواقع أن بعضهم ربما قـرأ في علم النفس أكثـر من كثير من الأطبـاء النفسانيين.


قالت في عصبية:

- إن زوجي يقـرأ كثيرا في علم النفس ... مكتبته كلها لا تضم إلا كتبـا في الاقتصـاد، وكتبــا في علم النفس .. فهل يكفي ذلك ليستغني عن الطبيب النفساني .. هل يستطيع أن يعالج نفسه؟


قلت في هدوء:

- لا.


قالت وهي تضغط بيدها على حافة مكتبي:

- إذن ما العمل، وهو يرفض أن يذهب إلى طبيب يحلل له نفسه؟


قلت :

- لا أدرى .. ولكنه يجب أن يذهب إلى الطبيب بإرادتـه واقتناعـه .. إن إجباره أو الضغط عليـه ليذهب إلى طبيب لن يفيده .. لن يؤدي إلى نتيجة سريعة.


قالت وهي أكثر حدة:

- هذا ما جئت لأستشيرك فيه .. منذ عام وأنا ألح عليه في أن يأتي إليك .. حاولت إقنـاعـه بكل وسيلـة .. ولكنـه يرفض ويصر على الرفض .. إني لم أعـرفـه أبـدا عنيدا إلى هذا الحد!


قلت:

- هل اقترحت عليـه أن يسـافـر إلى الخارج ، ويعرض نفسه هناك على أحد الأطباء النفسانيين .. إن بعض المثقفين قد تنقصهم الثقـة في الأطباء المحليين .. أطباء مصر .. وبعضهم ، ممن يعترفون بأنهم في حاجة إلى طبيب نفساني، يحسون كأنهم يكشفون عن عـورة .. ويفضلون أن يكشفوا عورتهم أمـام طبيب أجنبي .. بدلا من أن يكشفوهـا أمـام طبيب من بني وطنهم .. و ..


قالت تقاطعني:

- اقترحت عليـه أن يعـرض نفسه على طبيب نفسي في إنجلترا.. أو في ألمانيـا .. وقد سـافـر إلى إنجلترا وألمانيا عـدة مرات خلال هذا العام، ولكنه لم يعرض نفسه على أحد مشكلته أنه لا يؤمن بالأطباء النفسانيين .. بمهنة الطبيب النفسي ..

-

قلت كأني أحادث نفسي:

- أحسن.


قالت في دهشة:

- ما هو الأحسن؟


قلت:

- أحسن أنه لم يعرض نفسه على طبيب أجنبي.


قالت وقد اشتدت الدهشة في عينيها:

-لماذا ؟


قلت :

- لأن التحليل النفسي يعتمد في كثير من نواحيه على تحليل البيئة والمجتمـع الـذي يحيط بالمريض، والأطبـاء الأجانب يجهلون عادة تفاصيل هذه البيئة وهذا المجتمع .. إن خير من يحلل نفسية مريض أمريكي ، طبيب أمريكي. والمريض الألماني في حاجة إلى طبيب ألماني .. وهكذا ..



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش