الأنا الأعلى... The Superego \ لاكان


 


الأنا الأعلى هو مفهوم معروف في التحليل النفسي الفرويدي، يشير إلى جزء من النفس يعمل كبوصلة أخلاقية أو كصوت مجسد للسلطة. توجه تلك البوصلة الأخلاقية سلوك الفرد وقراراته، كما تعمل هذه الهيئة على تنظيم الدوافع اللاواعية والتوسط في الصراعات الأخلاقية والقيمية بين الهوية ومطالب العالم الخارجي. يرتبط عمل الأنا الأعلى عند فرويد بالموقف الأوديبي، الذي يعيشه الطفل في المرحلة الأوديبية من التطور النفسي ـ الجنسي. ففي تلك المرحلة تكتمل صياغة مفاهيم الخير والشر تصورياً  (أي كيف يتصور الطفل الخير والشر في المجال التصوري وليس كقانون أو  قواعد رمزية). وهكذا فالأنا الأعلى هو استبطان للقانون الاجتماعي الأسروي المتجسد في الصراع الأوديبي.

يميز لاكان بين مفهومين مختلفين تماماً، لا يبدو أن فرويد قد انتبه إلى الاختلاف بينهما، هذان المفهومان هما: الأنا المثالي (ideal Ego) ومثال ألأنا (Ego-ideal). 

الأنا المثالي: يشير إلى الصورة المثالية للذات عن نفسها، بمعنى أنها الصورة التي ترغب الذات أن تكونها أو الصورة التي ترغب الذات أن يراها الآخرين وفقها. الأنا المثالي هو بناء تصوري، يمثل آمال وطموحات المرء، ورغباته تجاه ذاته. يتشكل الأنا المثالي من خلال التماهي مع صور (صورة المرآة) أو مع أشخاص معينين (التماهي مع أسلوب كلام أحدهم مثلاً، أو طريقة مشي احدهم ...).

أما مثال الأنا: فهو ينتمي إلى النظام الرمزي، كونه يشكل مكاناً أو نقطة من الآخر الأكبر Big Other تراقب منها الذات نفسها. أي ليس ما يراه الآخرون فيّ أو أراه أنا في ذاتي، بل من أي مكان يراقبني الآخرون أو أراقب أنا نفسي، انطلاقاً من أي قيم يمكن اعتباري إنسان جيد أو سيئ، قوي أو ضعيف .... فلا بد من نظام للقيم والتقاليد والتوقعات التي يفرضها المجتمع على الذات. ومثال الأنا هذا يرتبط بالأنا الأعلى ليأخذ طابع التوبيخ والعقاب وينتج عنه الذنب في كل الأحوال، بغض النظر عما يفعله المرء فسيكون دائماً مقصراً.

 عند لاكان، يعتبر الأنا الأعلى ، وعلى العكس تماماً من فرويد، وكالة تعمل ضد الأخلاق، هيئة تهاجم الفرد بمطالب مستحيلة وتسخر من محاولاته الفاشلة لتلبيتها، مما يجعله يشعر بالذنب مهما فعل، سواء استجاب لأوامر الأنا الأعلى أم لم يستجب. فعند لاكان ليس الأنا الأعلى ضميرًا أخلاقيًا بالمعنى التقليدي، ولكنه بدلاً من ذلك "يعيّر" الذات ويتهمها بالخيانة للأخلاق  مهما فعل المرء.  

بهذا المعنى،  يشكل الأنا الأعلى وكالة خادعة تخدع الفرد ليعتقد أنه يجب عليه التقيد بمطالب الأنا الأعلى غير الواقعية والضاغطة باستمرار، فيكون هكذا فرداً صالحاً أخلاقياً، في حين أن ما يفعله الأنا الأعلى في الواقع هو دفع المرء بعيدًا عن رغباته وجعله يشعر بالذنب لخيانتها.  أي أن الذنب وشعور الضغط الذي يشعر به المرء تحت وطأة الأنا الأعلى ما هو إلا نتيجة خيانة المرء لرغباته الخاصة.

يأمر الأنا الأعلى المرء بالتمتع : يقول لاكان في سيمنار 20: " لا شيء يجبر أحدنا على الاستمتاع، إلا الأنا الأعلى. فالأنا الأعلى هو أمر الجويسانس لنا بالتمتع: تمتع !" Jouis !!

فالأنا الأعلى يضغط على الفرد ليتمتع ويجبره بذلك على مواجهة عجزه عن التمتع، فالمتعة التي يعدها الأنا الأعلى للمرء Jouissance   لا يمكن أن تفي بوعدها في الإشباع، فلا يتبقى للمرء من هذا الاستمتاع سوى الذنب.

لهذا يمكن اعتبار الأنا الأعلى هو ما يربط بين القانون والاستمتاع Jouissance، ضامناً استثمار الفرد في مثال الأنا الرمزي Ego-ideal بحماس شديد.

إذا يستمد الأنا الأعلى طاقته من الضغط الذي يمارسه على الشخص، والذي بدوره يستمد طاقته من حقيقة أن الشخص لم يكن وفياً لرغبته، وأنه قد تخلى عنها. في الوقت الذي يعتقد فيها المرء أن الذنب يأتي بسبب عدم طاعة الأنا الأعلى، لكن في الحقيقة يقع المرء خديعة مفارقة تحدث على مستوى الأنا الأعلى وهي : كلما امتثلنا لأوامر الأنا الأعلى أكثر، كلما تخلينا عن رغباتنا أكثر، وكلما شعرنا بالذنب أكثر.

على الرغم من ان الاختلاف بين مفهوم فرويد ومفهوم لاكان عن الأنا الأعلى يبدو كبيراً، إلا ان كلاهما ربط الأنا الأعلى بالأب البدائي (الأب كلي القدرة في الطوطم والتابو). فهذا الأب الذي كان يشكل السلطة المطلقة ويمنع الذكور الآخرين من الاستمتاع (بالنساء أو بالسلطة)، هو نفسه الأب الذي كان يستمتع دون قيود.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش