المشاركات

الأدب السوداوي \ كافكا

صورة
  تبدو فكرة التحوُّل غريبة بحدِ ذاتها فهي مطروقة في الأدب الإنساني منذ القدم، لكن مع كافكا لم يكن التحوُّل معضلة بحدِ ذاته،  ولم يسألَ غريغوري سامسا نفسه لماذا تحوَّل؟ كيف تحوَّل؟ كأن التحوُّل مرحلة مُنتظرةٌ أو ملاذ يُلتجأ إليه. وهذا جعلَ التكيُّفَ السريع نتيجةً حتمية في تقبُّل غريغوري وعائلته لهذا الانقلاب المفاجئ لجسد الابن، والفصل الجديد في حياة العائلة. حزنَ الأب والأم والأخت على وفاته في النهاية، لكنهم ما أبدوا قبل ذلك تعاطفاً كبيراً، وما التمسَ غريغوري دفء التعاملَ إلا من أخته، وهي الأخرى شكَّ أنَّ اندفاعها نحوها صبيانيّ غير مُدركٍ ولعلَّ طلبها التخلَّصَ منه يشي بحقيقةِ تعاملها معها. مات غريغوري الحشرة حين قرَّرتِ العائلة التخلّي عنه، لكن ماتَ غريغوري الإنسان حين انمسخَ وجوده وأضاعَ معنى حياته بانشغاله بغيره ونسيانه نفسه. إنَّ غريغور سامسا منعطف نحو المحيط الذي عاشَ فيه، فبعد تحوُّلِه -وربما حتى قبله- كان منعزلاً، لكن التحوُّل علَّم هذا الانعزال، وليس هذا الانعزال بالتلقائي والشخصيّ بل الانعزال الحتميّ الإجباريّ، فما وصول غريغوري إلى الحالة الحشريّة إلا إيذاناً بنهاية الاندماج ال

الوقت مجرد وهم

صورة
  يقول شمس الدين التبريزي : "الوقت مجرد وهم ما تحتاجه هو أن تعيش هذه اللحظة بالذات هذا هو كل ما يهم." أجمع أهم الحكماء و الفلاسفة أن الوقت مجرد "وهم" و أننا نعيش في سلسلة من لحظات آنية، كل ما نشهده هو دوامة من المعلومات تحدث في أذهاننا، الفضاء و الوقت مجرد أدوات يستخدمها العقل البشري للبقاء. الصوفي سُمي  "ابن الوقت" لأنه لا يأسف على الفائت ولا ينتظر الوارد، و ربما لأنه في حالة الفناء يعيش خارج إطار الزمن و أدرك لحظة تجلي أن الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل مجرد وهم. يقول الفيزيائي الإيطالي كارلو روفيللي Carlo Rovelli في كتابه "نظام الزمن": نعتقد خطأ أن الوقت شيء جوهري ، شيء أساسي للغاية ، بينما الفيزياء تخبرنا أنه لا يوجد شيء يسمى الماضي أو المستقبل، الوقت والحركة مجرد وهم. الماضي و المستقبل هما إختراع إنساني صرف، على المستوى المجهري الكوانتي الدقيق لا يمكن التمييز بين الماضي و المستقبل، الوقت يمضي بوتيرة مختلفة إعتماداً على المكان (يمضي أسرع في الجبال، و أبطأ على مستوى البحر) وعلى الحركة (الذي يجري يهرم أقل).

نحن نسافر لنقترب أكثر من معرفة ذواتنا الحقيقية

صورة
  نحن نسافر لنقترب أكثر من معرفة  ذواتنا الحقيقية، لنغوض في أعماقنا ونتجاوز الحدود العاطفية والمادية: إبن عربي: ”السفر هو معبر لذواتنا الحقيقية“ أنتوني بورداين: ”السفر يدور حول ذلك الشعور الرائع بالتأرجح في المجهول“ شيماماندا نغوزي أديشي: ”أعتقد أنك تسافر للبحث وتعود إلى الوطن لتجد نفسك هناك“ آلان دو بوتون: ”المتعة التي نستقيها من السفرات ربما تعتمد على العقلية التي نسافر بها أكثر من اعتمادها على الوجهة التي نسافر إليها— ما نجده إكزوتيكياً (غريبًا) في الخارج ربما هو ما نتوق إليه دون طائل في الوطن“ يقول المعلم الروحاني بيكو ايير : ”نسافر في البداية لكي نفقد أنفسنا، ونسافر بعد ذلك لنجدها. نسافر كي نفتح قلوبنا وعيوننا ونتعرف أكثر على العالم. نسافر خصوصاً لكي نعود مجانين صغاراً نعمل على إبطاء الوقت والانخراط فيه، والوقوع في الحب مرة أخرى“ ”العالم مثل الكتاب، و من لا يسافر يقرأ منه صفحة واحدة فقط“  ، كما قال القديس أوغسطين ؛ و ”من لم ير إلا بلده يكون قد قرأ الصفحة الأولى فقط من كتاب الكون“ كما قال فرانسيس بيكون. السفر هو إنعتاق من القيود المكانيّة و الزمانيّة  فالشخص الذي لا يبرح منزله يبقى

فلسفة القطط والبحث عن المعنى في الحياة

صورة
  يقضي الإنسان حياته في قلق مستمر بحثاً عن إجابات لأسئلته الوجودية، مثقلٌ بعقله، دائماً يطمح للوصول إلى شيء لا يدركه و لا يعرف كنهه، بينما القطط، على العكس من ذلك، لا تتطلب طريقة وجودها في الحياة الفلسفة أو التفكير العقلاني، تقضي وقتها في وداعة ولا تنظر إلى المستقبل وتحاول فقط أن تحقق الرفاهية في لحظتها الراهنة. يرى الكاتب الأمريكي جون ن. غراي John N. Gra في كتابة (فلسفة القطط والبحث عن المعنى في الحياة): "مصدر الفلسفة هو القلق الوجودي ، والقطط لا تعاني من القلق الوجودي إلا إذا كانت مهددة أو تجد نفسها في مكان غريب-القطط ليست بحاجة إلى الفلسفة." فالفلسفة، كما يعرفها غراي ، ليست أكثر من مظهر من مظاهر قلقنا الوجودي الدائم لإيجاد المعنى. ذلك القلق الذي تحاول كل من الديانات والفلسفة جاهدة لتهدئة توترنا النظري والروحي. وغياب التفكير المجرد لدى القطط هو علامة على حريتها العقلية، "القطط ليست بحاجة إلى إصلاح أو إعادة تقييم حياتها" و يضيف غراي أنه إذا استطاعت القطط أن تفهم جدوى البحث البشري الدائم عن المعنى، فإنها ستخرخر ببهجة ولسان حالها يقول: "ما هذه العبثية الهائلة&qu

إستغلال الفكر والثقافة و الفن

صورة
  المبادرات الثقافية التي تلاقي ترحيب و دعم الحكومات حول العالم هي مبادرات مشبوهة و دائماً ما يُنظر لها بعين الشك و الريبة ، و عن المثقف الأجير يكتب إدوار سعيد: "على المثقّف أن لا يسمح لأيّ راع من الرعاة أو سلطة من السلطات توجهه أو توجيه خطابه لخدمتها" و يضيف سعيد: "المثقف يجب ان يكون هاويا ً لامحترفا ً ليكون أكثر تحررا ً في نقد السلطة بكل أشكالها وحينها يكون حرا ً وليس أجيرا ً لدى مؤسسة ما. في العالم العربي دور المثقَّف هامشيّ، لأن السلطة هي سلطة المجتمع والسياسة وسلطة رجال الدين هي السائدة"   إستغلال الفكر والثقافة و الفن في تمرير أجندات ثقافية و سياسية ليس حكر على الحكومات الشمولية فقط ، بل أن هناك بعض الديمقراطيات كانت و قطعاً مازالت تقوم بهذا الدور و لكن بأساليب أكثر خلسة من الأنظمة الشمولية كما وثقتة الباحثة و المؤرحة فرانسيس ستونر سوندرز Frances Stonor Saunders في كتابها المهم "من دفع للزمّار؟ Who Paid the Piper   في كتابها تستعرض سوندرز الدور المشبوه الذي قامت به وكالة الإستخبارات الأمريكية الـــCIA أثناء الحرب الباردة في التغلغل في المؤسسات الثقافية و

Into the Wild

صورة
  " إن السعادة الحقيقية لن تحدث ما لم نتشاركها مع الآخرين "  من فترة وجيزة قرأت أحد المقالات عن مفهوم " الموت الرمزي " عند المحلل النفسي الشهير جاك لاكان , وعند اعادة مشاهدتي لفيلم " الى البرية " وجدت ان هذا العمل ربما يكون من اكثر الاعمال التي يمكن ان تشرح وتبين مفهوم "النظام الرمزي " وايضا " الموت الرمزي " .  تدور احداث الفيلم حول كريستوفر الذي يبحث عن السعادة الحقيقية وكان يعتقد انه سيجدها بالعزلة والابتعاد عن الحياة المدنية وعن عالم البشر في احضان الطبيعة والبرية اي بالعودة الى الحياة البدائية , ولكن بعد ان يقضي فترة من الزمن داخل احدى الحافلات المهجورة في الاسكا بعيدا عن عالم البشر يقرر العودة الى عائلته وبلدته , ولكن يحول دون ذلك ارتفاع منسوب النهر الذي جاء من خلاله وهيجانه بحيث لا يمكن المرور منه ،فيضطر  للبقاء في آلاسكا ، ويبقى هكذا حتى تنتهي به الحياة، بعيدا عن عائلته وأصدقائه ويموت داخل الحافلة المهجورة لكن بعد ان يدرك أن السعادة الحقيقية لن تحدث ما لم نتشاركها مع  الآخرين . لكن ما هو مفهوم النظام الرمزي والموت الرمزي عند جاك

الأدبُ و الفنون الجميلة تحتاج إلى الحُرية

صورة
  الأدبُ و الفنون الجميلة تحتاج إلى الحُرية كي تزدهر، وتحتاج إلى شعب يتمتع بجميع وسائل الحياة الكريمة لكي يستمتع بالترفيه و يتذوق الفنون هل يستطيع الإنسان المهموم بلقمة عيشه و المتوتر من المستقبل المجهول أن يجد متسعا في الصدر و المال للبحث عن الترفيه و تذوق الأدب و الفنون الجميلة؟ الحضارة  اللتي تضع كرامة الانسان أولا و توفر له الحياة الكريمة من وظيفة ، مأكل ، مشرب و تسن التشريعات التي تكفل حريته و تحفظ الحقوق .. عندها تصبح الفنون الجميلة و الترفيه مجرد أمتداد طبيعي  لهذه الحضارة و ليس  كالمسخ الهجين المفروض عليها من خارج سياق التدرج الطبيعي لسلم الحضارة. علي الوردي:   «لن تجد فقير مهتم بطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى عن معنى الحياة و يهتم بالفكر و الفن و الثقافة و الجمال ... الفقير مهموم باللحاق وراء لقمة العيش، الفقير الجائع يكاد لا يفهم الحقيقة إلا على شكل رغيف» الحكيم أوشو: «الإنسان الجائع ليس لديه رفاهية أن يفكر ما إذا كان هناك "معنى للحياة أم لا؟"، لا تستطيع أن تناقشه عن الشعر، الموسيقى، و الرسم، إنه يتضور جوعاً! هذه وقاحة و إهانة لمعاناته»

ملاحظات حول كوكب متوتر \ مات هيغ

صورة
  لا تقارن ذاتك الواقعية بذات منافقة. لا تغرق في بحر من الجمل التي تبدأ بـ "ماذا لو"؟ لا ترهق عقلك بتخيل نُسخ أخرى منك، في أكوان موازية، حيث تقوم باتخاذ قرارات مختلفة. عصر الإنترنت يحثنا على الاختيار والمقارنة، ولكن، لا تفعل هذا بنفسك. "المقارنة هي لص المتعة"، قال ثيودور روزفيلت. الماضي هو الماضي. والطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها أن تخلق حياة أفضل تبدأ من الحاضر. تفكيرك في أخطائك الماضية سيضيع عليك فرصة عيش حياتك الآن. تقبّل واقعك. كن إنساناً بما يكفي وارتكب الأخطاء. كن إنساناً بما يكفي ولا تخف من المستقبل. كن إنساناً بما يكفي وكن بخير. قبولك بواقعك وحياتك سيجعلك تستمتع بهما دون أن تنظر لحياة من حولك بمشاعر الغيرة والندم.

المنزل المسكون \ فيرجينيا وولف

صورة
في أي ساعة من الليل استيقظت، تسمع صوت أبواب ونوافذ تنصفق.. تشعر بهما يتنقلان من حجرة إلى حجرة وقد تشابكت أيديهما، يتحسسان بعض الأمتعة هنا، ويفتحان بعض الأدراج هناك، وكأنما يبحثان عن شيء ما. قالت له: «لقد تركناه هنا!». أجاب: «وهنا أيضاً». تمتمت قائلة: «وربما في الطابق العلوي» أجاب بهمس: «أو في الحديقة». قالا بصوت واحد: «علينا أن نكون أكثر هدوءا كي لا نوقظهما». لكن ليس في إيقاظكما لنا ما يضير، كلا، على الإطلاق. فلا ضير من أن يستيقظ المرء ويقرأ صفحة أو صفحتين... « إنهما يبحثان عنه.. إنهما أيضا يسدلان الستارة » «لقد عثرا عليه». وإذا ما شعر بالملل من القراءة، فإن في مقدوره النهوض على قدميه، والتجول هنا وهناك، ليرى بعيني رأسه هذا المنزل خاويًا على عروشه، والأبواب كلها مشرعة، وليتثبت بنفسه أن ما من صوت يطرق جنبات هذا المنزل سوى صوت هديل الحمام الذي يرقد في أعشاشه مطمئنا في الأيكة المجاورة، وصوت دراسة الحنطة القادم من المزرعة المجاورة. ما الذي أتى بي إلى هنا؟.. ما الذي أبحث عنه؟.. إنني خاوي الوفاض. قد يكون في الطابق العلوي. لقد استقرت التفاحات في العلية.. أما في الأسفل، فإن الحديقة ما زالت كما

الصمت من منظور فلسفي

صورة
  الصمت هو عدم إصدار صوت أو كلام. وهو ظاهرة إنسانية عالمية، يمكن أن يحدث في أي مكان وفي أي وقت. وقد يكون الصمت اختياريًا أو غير اختياري. الصمت في الفلسفة لقد تناول الفلاسفة الصمت من منظورات مختلفة. فبعض الفلاسفة يرون أن الصمت هو حالة من السلبية، بينما يراه آخرون على أنه حالة من الإيجابية. الصمت كحالة من السلبية يرى بعض الفلاسفة أن الصمت هو حالة من السلبية، لأنه يشير إلى عدم وجود شيء. على سبيل المثال، يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن الصمت هو علامة على عدم وجود معرفة. ويعتقد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أن الصمت هو علامة على عدم وجود وجود. ويمكن أن يكون الصمت علامة على الضعف أو الخوف. فعندما يصم الشخص أمام موقف صعب أو تهديد، يمكن أن يكون ذلك مؤشرًا على أنه غير قادر على الرد أو أنه خائف من العواقب. الصمت كحالة من الإيجابية يرى بعض الفلاسفة أن الصمت هو حالة من الإيجابية، لأنه يشير إلى وجود شيء. على سبيل المثال، يرى الفيلسوف الهندي غاندي أن الصمت هو علامة على القوة. ويعتقد الفيلسوف الصيني كونفوشيوس أن الصمت هو علامة على الحكمة. ويمكن أن يكون الصمت علامة على الاحترام أو التأمل. ف

الجسد بين الذات و العالم \ ديوان نيتشه

صورة
  يتقدّم الجسد إلى الوعي كموضوع على الكثير من الطّرافة : فهو موضوع يسهُل الإقرار بوجوده / من مِنّا يُنكِر أن له جسد ؟ / كما هو موضوع يَسهُل إنكاره، وفي الحالة الثانية يلعب السؤال الفلسفي دوراً مصيرياً. يحترز أفلاطون ومعه عموم الفلسفة المثالية من كل ما يمثل أمامه مرئياً، لأن المرئي هو ظل ما يتوجب تأمّله، و أخطر المرئيات ( الجسد ) : إنه يمثُل بين الذات و العالم، مُدّعياً أنه الواسطة الضرورية بين الروح والأفكار التي تريد الذات تأمُّلها : إنه الشاشة التي تنعكس عليها التمثُّلات و ترتسم. لذلك كان الجسد بالنسبة إلى الفيلسوف المثالي مُزعِجاً، ولذلك أُعلِنت الحرب عليه في أكثر من عصرٍ و مجال، وتم سجنهُ في فضاء معرفي ضيّق جداً : إذا كانت الروح لا تقدر إلا أن تتجسد، إذا كان لابد على الوعي من عبور الجسد، فليكن ذلك في ( السِّر )، وعلى الفلسفة أن تُعلّمنا التخلُّص منه. إن تجربة وضع الجسد بين قوسين تؤكّد أنه يستحيل على الذات بأن تتقدم كروح خالصة، أن أعرف جسدي - في منظور ديكارت - يعني أن أتنازل عن صرامة المثالية، وذلك بأن أُقِرُّ ببعض دور للجسد يجعل معرفتي بالعقل أفضل، وهذه المعرفة بالعقل هي ما يسمح لي

خطاب خوسيه ساراماغو

صورة
  أكثر الرجال حكمة ممن عرفتهم في حياتي، لم يكن يتقن القراءة ولا الكتابة، يستيقظ كل يوم في تمام الرابعة فجراً هناك حيث كانت الأرض الفرنسية على موعد مع فجر جديد، ينهض من سريره ويخرج نصف دزينة من الخنازير إلى الحقل الذي كان يتعايش وزوجته من إنتاج محصوله. كانا يؤمنان قوت يومهما من بيع صغار الخنازير بعد الفطام للجيران في مزرعة "أزينهاغا" في مقاطعة "ريباتيخو". ذاك الرجل يدعى"هيرونيمو ميلرنيهو" وزوجته "خوسيفينا كايكسينخا" هما جداي، وكانا أميين. في فصل الشتاء، عندما يشتد البرد ليلاً حتى تتجمد المياه في مجاريها، كان ينتقيان الأضعف من بين صغار الخنازير حديثي الولادة ويصحبانها لتنام معهما في السرير، حيث كان دفء جسديهما تحت الغطاء السميك ينجي تلك الصغار الضعيفة من موت محتم. كانا شخصين طيبين جل ما كان يشغلهما هو تأمين قوت اليوم بطبيعة من يعيش حياته ولم يتعلم التفكير أبعد من أنفه. ساعدت جدي "هيرونيمو" مرات كثيرة في أعمال الحقل، حرثت أرض "هويرتو" القريبة من المنزل وقطعت الأخشاب للموقد، وأحياناً كثيرة قمت بتدوير العجلة الحديدية لتشغيل مضخة ال

الغلطة الأخيرة \ إحسان عبد القدوس

صورة
  كان دوره على المسرح لا يستغرق سوى دقيقتين.. أن يدخل إلى عيادة الطبيب ويضحك في سخرية ويقول: «لقد وجدت أخيراً العلاج الناجع، الذي عجز عنه الطب»، ثم يُخرِج مسدسا من جيبه، ويطلقه على رأسه.. ويموت.. ويبدأ الطبيب في سرد قصته التي تستغرق باقي فصول المسرحية.. دور صغير لايستغرق سوى دقيقتين.. يتقاضى نظير أدائه خمسين قرشاً عن الليلة الواحدة.. وقد كان في حاجة إلى أكثر من هذه الخمسين قرشاً.. كانت زوجه مريضة، وابنه مشرّد في الشوارع بعد أن طُرِد من المدرسة.. وصاحب الاجزاخانة، والبقال، وبائع اللبن وبائع العيش.. كلهم قد امتنعوا عن التعامل معه وأخذوا يطاردونه.. وصاحب البيت أنذره بالطرد إن لم يدفع المتأخر عليه.. و.. وهو في حاجة إلى خمسين جنيهاً دفعة واحدة.. وحالاً.. ليستطيع أن يستمر في الحياة.. ومنذ أسابيع وهو يلح على مدير الفرقة أن يقرضه هذه الخمسين جنيهاً.. ولكنه يرفض.. لقد عمل معه خمسة عشر عاماً طوالاً، وزامله في الأيام السود والأيام البيض.. ولكنه يرفض.. لم تشفع لديه زمالة السنين.. وهو لا يتعجب من رفضه.. فقد كان دائماً يرفض.. كانت هذه هي طبيعته.. الرفض.. ورغم ذلك فقد زامله خمسة عشر عاماً.. ربما لأنه