رحيل برنار ستيغلرالمتمرّد الذي أدركته الفلسفة في سجنه


 



_ أبو بكر العيّادي / صحيفة العرب اللّندنيّة 



هو رجل غادر التعليم مبكرا، ليشارك الطلبة تمرّدهم أثناء ثورة مايو 68، ثم مارس عدة أعمال هامشية قبل أن ينحرف ويدخل السجن. في سجنه اكتشف الفلسفة وراح يدرسها بتشجيع من جاك دريدا، ولما غادر السجن صار مفكرا يساريا ينتقد بشدة انحرافات المجتمع الليبرالية، ويجري بحوثا عن تحولاته من خلال المنظومة الرقمية. إنه الفيلسوف جورج ستيغلر الذي وافته المنية فجأة الخميس الماضي عن سن تناهز الثامنة والستين. 

أبو بكر العيادي

عرف برنار ستيغلر (1952-2020) كفيلسوفٍ يساري بارز ركز بحوثه على دور المستحدثات الرقمية في التحولات المجتمعية، وناقدٍ شرس للنظام الرأسمالي وانحرافات المجتمع الليبرالية، ولكن قلة قليلة تعرف أن حرفة الفلسفة أدركته في السجن، وأن مسيرته لم تكن مجرد نهر طويل هادئ، يبدأ بالدراسة وينتهي بالشهائد والمؤلفات وشغل المناصب. فقد هجر مقاعد الدراسة في سن السادسة عشرة لينضم إلى الطلبة الثائرين في ما عرف بثورة مايو 68، وكان قد بدأ يكتشف ماركس وتروتسكي، ثم انخرط في الحزب الشيوعي للدفاع عن البروليتاريا، ولكنه ما لبث أن انسلخ عنه عام 1976 تنديدا بـ"ستالينية" أمينه العام في ذلك الوقت جورج مارشي، ليمارس عدة أعمال هامشية: عاملا كادحا، وعاملا بمكتب، وساعيا لدى مكتب مهندسين معماريين، وعاملا فلاحيا بالجنوب الفرنسي، قبل أن يفتح بارا موسيقيا في مدينة تولوز كان يدعو إليه بعض عازفي الجاز. وكان من بين روّاده جيرار غرانيل مدرس الفلسفة بجامعة المدينة، الذي ستربطه به صداقة متينة ويجد لديه ما سوف يرسم له طريقا جديدة. 

لم تجر الأمور كما أرادها ستيغلر، إذ سرعان ما كسدت تجارته، وازدادت مصاريفه بولادة ابنته بربرا (وهي الآن فيلسوفة معروفة وأستاذة في الفلسفة السياسية بجامعة بوردو مونتاني)، ولم يجد من حلّ للخروج من أزمته المالية غير السطو على أحد الفروع البنكية. ثم استهوته العملية، فكررها بالسطو على ثلاثة فروع أخرى، إلى أن وقع في قبضة الشرطة عام 1976 وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، ولم يكن قد تجاوز السادسة والعشرين. وبدل أن ينقم على المجتمع، ويعدّ العدّة لتنفيذ نقمته عند السراح كعادة المنحرفين، راح يلتهم الكتب الفكرية التي يجيئه بها صديقه غرانيل في كل زيارة، ويغوص في أعماق ذاته يبحث لحياته عن غاية. في حديث لفرنسا الثقافية قبل شهرين، قال ستيغلر إن من أهمّ ملامح تجربته السجنية تجربة الصمت المطلق، إذ كان يبقى صامتا لمدة شهور، لا ينبس بكلمة. يقول في هذا الصدد: "اكتشفت ظاهرة لم يدرسها الفلاسفة، ورجال الدين، وحتى فلاسفة الدين مثل سان أوغسطين، إلا قليلا، وهي تجربة الصمت الذي يشرع بغتة في الكلام."  

في مركز اعتقاله ما بين عامي 1978 و1983، ساعده صديقه غرانيل على الترسيم بجامعة تولوز، ومواصلة دراسته عن طريق المراسلة، ونصحه بمراسلة جاك دريدا، الذي استجاب له وشجعه، فحاز ستيغلر كل دبلوماته. ولما غادر السجن عُيّن مدير بحوث في المعهد العالمي للفلسفة الذي كان يترأسه دريدا، ثم مدرسا بالجامعة التكنولوجية بمدينة كمبياني، بعد أن توصّل محاميه إلى تطهير سجلّه الجنائي. وما هي إلا بضعة أعوام حتى أنهى رسالته الجامعية تحت إشراف فيلسوف التفكيكية، جاك دريدا. بعد التدريس شغل ستيغلر عدة مناصب، آخرها إدارة التنمية الثقافية بمركز بومبيدو للفن المعاصر. هناك أنشأ معهد البحث والتجديد، مهمته استباق تحولات الأنشطة الثقافية والعلمية والاقتصادية التي أوجدتها التكنولوجيات الرقمية ومرافقتها وتحليلها، بهدف تطوير أجهزة نقدية تشاركية جديدة، مثلما أنشأ جمعية فلسفية "أرْس أنديستروياليس" للبحث في آثار الآلية والروبوتية، فهو من الناشطين الذين يسعون لدفع الدولة إلى الاعتراف بمن يقومون بأعمال هامشية اعتاد المجتمع أن ينظر إليها كأنشطة خارج الدورة الاقتصادية. وكان يستعد للمشاركة في نهاية الشهر الجاري بمدينة آرل في مهرجان جديد عن "علاقة الإنسان بالطبيعة، وضرورة التحرك لأجل الكائن الحيّ" حين أدركه الموت.

تحوم فلسفة ستيغلر حول مفاهيم التمزيق disruption (وهو مصطلح جدلي قليل الاستعمال، يشمل القَطع والكسر والتهشيم، ويستعمل في عدة مجالات علمية لوصف مثل هذه الظاهرة) ففي رأيه أن تسارع المستحدثات الرقمية واتساع رقعة الميديا جماهيريا أدّيا إلى معايرة الحيوات، وتفقير الثقافة. وتحوم أيضا حول الإكداح (أي تحويل فئة من المنتجين المستقلين إلى وضع بروليتاري كادح) ويشمل كل الحرف التي يمكن فيها الاستعاضة عن العمل والمهارة بالآلات. مثلما اهتم بما أسماه القصور الحراري، مستلهما فكرته من الفيزياء حيث القصور الحراري مقياس لمعرفة مقدار تدهور الطاقة في نظام ما، لتصوير تبدد طاقات المجتمع تبددا أدى إلى الاحتباس الحراري والقصور الإخباري عندما تمحو اللوغاريتمات والبيانات الضخمة الإنسان. فهو يطبق مفهوم "فارماكون"، المستوحى من دريدا وأفلاطون، على المسألة الرقمية. ولما كان الـ"فارماكون" يعني أن كل دواء هو سمّ وترياق في الوقت نفسه، فإن من الصعب، بل من المستحيل رسم خط واضح بين ما يشكل خطرا وما يشكل وعدا بشيء أفضل، فمن خصائص التكنولوجيات الرقمية أنها تقدم حلولا للمشاكل القائمة بقدر ما تأتي بمشاكل جديدة. وفي رأي ستيغلر أن المعرفة البشرية هي وحدها التي يمكن أن تجنب الإنسان التمزق وتشتت الطاقات، ولذلك كان يدعو الدولة إلى رصد منح لدراسة أثر الرقمي على البحث والتعليم في شتى المجالات.  

من مباحثه أيضا حرصه على التمييز بين الشغل، الذي تحول إلى كدح بروليتاري بشكل واسع، وبين العمل الذي يحوّل العالم عن طريق المعرفة. ففي رأيه أن نموذج الشغل الصناعي الذي كان يخص العمال منذ قرنين ونصف، تجاوز القطاع الثالث ليشمل كل الوظائف، لا تستثنى من ذلك حتى وظائف التأطير والعلاج والطب، لأنه صار يخضع لنظام جامد ومغلق. ما يعني أن ثمة وظائف لا تنتج عملا، بينما توجد أنشطة عمل خارج دورة الشغل. والحل في اعتقاده لا يكون إلا بإعادة توزيع الثروة التي ينتجها العمل في شتى أشكاله لتطوير المعارف التي يحتاج إليها إنسان هذا العصر.     

كان ستيغلر بارز الحضور، ميدانيّ النشاط، يهتم بكل ما يطرأ على المجتمع من تحولات، ويبدي فيها رأي العارف الخبير. عندما اضطرت الكورونا الناس جميعا إلى الحجر الصحي، كتب يقول في أبريل الماضي: "الحجر ينبغي أن يكون فرصة تأمل واسعة النطاق في إمكانية وضرورة تغيير حيواتنا. وهذا يمرّ عبر ما أسميته في كتابي "فقدان الإيمان والثقة" أوتيوم الشعب (والأتيوم otium عبارة لاتينية تعني فيما تعني وقت الراحة الذي يخصصه الفرد للتأمل والفسحة المُجِدّة) أي أن يكون فرصة لإعادةِ القيمة للصمت، والإيقاع الذي نفرضه بدل أن نخضع لسعي الميديا نشر كل ما يشغل الإنسان عن أن يكون إنسانا." وكان قد أثار في حديث آخر لجريدة ليبراسيون عقب صدور الجزء الثاني من كتابه "ما معنى التضميد؟" وخصصه لـ"درس غريتا ثونبرغ" مشكلة عجز الحكومات والشركات الكبرى أمام الأزمة البيئية وغضب الأجيال الجديدة، قائلا: "حتى وإن أرادت الدول ذلك، فإنها لا تملك المفاهيم الضرورية لإحداث التغيير. فلا بدّ من صياغة نقد جديد للعلم في العالم الصناعي." 

لقد ساهم برنار ستيغلر طيلة أربعين عاما في وضع أسس هذا النقد، إذ كان رائدا في التأمل المعاصر لمكانة التقنية في المجتمع، بوصفها جزءا فاعلا ومؤسسا للحضارة الغربية. كان يشتغل على التقاطع في شتى المجالات حول صورة الهجين، ويمدّ جسورا بين الجماليّ والتكنولوجي والسياسي، لا ينفك يجدد قاموسه ومفاهيمه للإحاطة بوضع ما، ما جعله عسير القراءة في بعض الأحيان.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش