إدجار آلان بو / قصة : القلب الوافي المترجم : نادية فريد


 

مجنون .. مجنون، هذا هو ما ينادونني به. 

إنني حقاً عصبي.. شديد العصبية. ولكن لماذا يقولون إنني مجنون ؟!  

هذه الحمى التي أصابتني العام الماضي.. أصابت حواسي بالحدة ولكن لم تدمرها، بالاضافة إلى ذلك أصبحت حاسة السمع عندي أقوى الحواس، فأنا أسمع أشياء في السماء والأرض، بل أنني أسمع أشياء كثيرة في الجحيم، فكيف بالله عليك أكون مجنوناً . 

اسمع وسوف ترى بنفسك كيف أبدو هادئاً وأنا أقص عليك القصة بأكملها. 

من المستحيل أن أتبين كيف وردت هذه الفكرة على ذهني أول مرة، ولكنها قفزت إلى ذهني فجأة، وأخذت تلح عليّ ليلاً ونهاراً. ولم يكن هناك في الحقيقة أي مبرر للأفعال التي وردت على ذهني - (القتل) 

إنني أحب الرجل العجوز، فقد قمت باستئجار سكن بمنزله، وهو لم يغالطني أبداً، كما لم يؤنبني قط. حقاً أن لديه ذهب كثير، ولكني لا أريده. 

أعتقد أنها كانت عينه، كانت عينه هي التي تزعجني. فأنت ترى احدى عينيه طبيعية ولكن الأخرى تشبه عين النسر ! .. كانت زرقاء باهتة عليها غشاوة. وكلما نظرت هذه العين نحوي، أشعر بدمي يجري بارداً وهكذا.. وبالتدريج. وبعد كثير من التفكير - عقدت العزم.. أنني سأقتل الرجل العجوز. وبالتالي سأتخلص من هذه العين إلى الأبد. 

أنت فعلاً تعتقد أنني مجنون! - ولكن الرجال المجانين يكونون مشوشي الذهن، ولا يمكنهم تخطيط أي شيء. ولكنك يجب أن تراني، يجب أن ترى كيف أقوم بتحديد ثم تخطيط كل خطوة بحكمة وعناية، وكان يجب أن ترى كيف اقوم بالعمل في حماس. 

لم أكن أبداً في مثل هذا الحنان على الرجل العجوز مثلما كنت خلال الأسبوع الذي سبق قتلي له. كل ليلة عند حوالي منتصف الليل، كنت أدير مزلاج باب حجرته ثم أفتحه، آه، بمنتهى اللطف أفتحه إلى الحد الذي يسمح لرأسي بالمرور، أخذت مصباحاً مظلماً إلى الغرفة، وكان المصباح مغلقاً.. مغلقاً تماماً بحيث لم يكن هناك أي ضوء.. عندئذ دفعت رأسي للداخل.

تحركت ببطء.. ببطء جداً جداً .. حتى لا اقوم باقلاق نوم الرجل العجوز. 

لقد استغرقت حوالي ساعة حتى يمكنني أن أدفع رأسي بالكامل في مدخل الباب وفي وضع يسمح لي برؤيته وهو راقد على فراشه .. ها.. هل يمكن لمجنون أن يكون حريصاً إلى هذا الحد؟ . 

وعندما اصبح رأسي داخل الحجرة تماماً، قمت بفتح المصباح بحرص - فتحته بحرص شديد حتى ان مجرد شعاع واحد رفيع من الضوء سقط على عين النسر.. مجرد شعاع واحد. 

فعلت ذلك لمدة سبع ليال طويلة، كل ليلة.. وعند منتصف الليل تماماً.. ولكني في كل ليلة كنت أجد العين مغلقة.. لذلك كان من المستحيل أن أؤدي عملي لأنه كما ترى، لم يكن الرجل العجوز هو الذي اغضبني ولكن عينه الشريرة هي التي كانت تغضبني. 

كذلك في كل صباح ولمدة سبعة ايام متوالية، عندما يبدأ نور الصباح، كنت أذهب بجرأة إلى حجرته واتحدث إليه، وأناديه بأسمه بصوت حنون وأسأله كيف أمضى ليلته. 

وهكذا كما ترى، فأن هذا الرجل العجوز ولا يتصور في الحقيقة أني في كل ليلة وعند الثانية عشر تماماً، كنت أقوم بمراقبته وهو نائم. 

وفي الليلة الثامنة- كنت حتى أشد حرصاً من المعتاد عند فتح الباب، حتى أن يدي كانت تتحرك ببطء اقل من حركة دوران عقرب الدقائق في الساعة الدقيقة. لم أكن أشعر بمدى قوتي قبل هذه الليلة. مجرد التفكير .. أنني هنا أفتح الباب شيئاً فشيئاً. بينما هو هناك لا يخطر على باله أي شيء عن أفكاري أو تصرفاتي الخفية، فأنني لا أتمالك شعوري بالانتصار وأثارت الفكرة ضحكي، وربما يكون قد سمعني فقد تحرك في الفراش فجأة، وكأن شيء أفزعه.

والآن قد تظن أنني تراجعت، ولكن لأ.. كانت حجرته غارقة في ظلام دامس.. سواد شامل- لأنه كان يحتفظ دائماً بالشيش مغلقاً خوفاً من اللصوص. أنني أعلم أنه لن يستطيع أن يرى فتحة الباب، لذا فقد أخذت في دفع الباب ببطء وثبات إلى الداخل. 

في النهاية أدخلت رأسي، وبينما أنا على وشك أن افتح الباب المصباح عندما أنزلق إبهامي على شرائط القصدير قفز الرجل العجوز جالساً في الفراش وصرخ متسائلاً : "من هناك؟"

ظللت ساكناً بلا حراك، لم أنبس بكلمة، ولمدة ساعة كاملة لم أحرك عضلة واحدة. ومع ذلك وخلال كل هذا الوقت لم أسمعه يستلقي على الفراش مرة أخرى. كان لا يزال جالساً في الفراش ينصت بأمعان، تماماً كما أفعل أنا.. ليلة بعد ليلة كنت أنصت إلى هذه الخنافس الدقيقة التي تضرب رأسها على الأخشاب فتصدر أصواتاً خافتة- هذه الأصوات التي يقال إنها تتنبأ بالموت.. ما مدى صحة هذه التنبؤات يا ترى؟! 

في الحال سمعت أنيناً ضعيفاً، ويمكنني القول أنه لم يكن أنين ألم أو حزن. آه.. كلا.. إنه كان أنين الرعب القاتل- أنه كان الصوت المكتوم يأتي من داخل أعماق الرجل. 

إنني أعرف ماكان يحس به الرجل العجوز، كنت أرثي له، وكنت أعلم أنه ظل جالساً هناك مستيقظاً منذ اللحظة الأولى لسماع الصوت. وعندما هب جالساً في الفراش، بدأت مخاوفه في التزايد منذ تلك اللحظة، ولا بد أنه كان يحاول أن يتصور أنها اصوات بعيدة ولكنه لم يستطع، لابد انه كان يقول لنفسه :"إنها لا تعدو أن تكون اصوات داخل المدخنة" أو "إنه صوت فأر كان يحاول عبور الحجرة" أو "إنه مجرد صرصار يقوم بالتغريد مرة".. نعم أنه كان يحاول أن يطمئن نفسه باستعراض مثل هذه الأفكار المريحة، ولكن كل ذلك كان عبثاً، كل ذلك كان سدى، لأن الموت، بشحمه الأسود كان يتقدم أمامه. 

كان شبح الموت هذا هو السبب في شعور الرجل العجوز بالرعب مع أنه لم ير ولم يسمع، ولكنه شعر بوجود رأس داخل حجرته. 

لقد انتظرت طويلاً، بصبر ناقد، بدون أن أسمع أنه قد استلقى مرة أخرى إلى الفراش، لذلك قررت أن أزيد من ضوء المصباح بعض الشيء، ولا يمكنك أن تتصور كيف تمكنت خلسة وبمنتهى الهدوء من أن أقوم بفتح إحدى شقوق المصباح حتى تسرب شعاع ضوء واحد وسقط مباشرة على عينه.. عين النسر !! 

كانت العين مفتوحة .. مفتوحة على اتساعها. اشتعل غضبي عندما حملقت فيها. لقد رأيتها بالتفصيل، يلفها كلها لون أزرق معتم ويغلفها حجاب بشع!.. لقد دفعت بالقشعريرة الباردة إلى داخل نخاع عظامي، ولم أستطع أن أتبين أي شيء آخر من وجه الرجل أو جسده لأني كنت موجهاً شعاع المصباح بالتحديد على عين النسر. 

لقد ذكرت من قبل ما تصوره الناس خطأ أنه الجنون بينما هو في الحقيقة حدة خاصة في حواسي.. والآن حاسة السمع عندي كانت في أقصى حدتها، عندما وصل ألى سمعي صوت كئيب خافت وسريع، صوت قد يكون آتياً من ساعة ملفوفة في قطن، أنني أعرف هذا الصوت جيداً أنها دقات قلب الرجل العجوز، هذه الدقات زادت من غضبي تماماً كما تزيد دقات الطبول من شجاعة الجندي. 

ولكني لازلت أنتظر ساكناً، أكاد اتنفس بصعوبة أمسكت بالمصباح بدون حركة، حاولت أن أتبين إلى أي مدى يمكنني أن أحتفظ بالشعاع ثابتاً وهو ينعكس على عين النسر. 

في نفس الوقت أخذت الدقات الجهنمية لقلب الرجل تتزايد وفي كل لحظة تصبح أسرع وأسرع.. أعلى .. وأعلى. لابد أن رعب الرجل العجوز كان هائلاً ! 

اصبحت الدقات أعلى .. أقول لك .. أعلى.. كل دقيقة أعلى.. والآن عند حلول ساعة الموت في الليل، وفي وسط الصمت المخيف لهذا المنزل القديم، كان هذا الصوت الغريب يقودني إلى فزع لا يقاوم. 

لقد قلت مسبقاً أنني عصبي، وهكذا أنا.. ومع ذلك فقد مكثت لعدة دقائق أخرى بلا حراك ولكن الدقات أخذت في الارتفاع.. الارتفاع.. أعلى... وأعلى.. وأعتقد أن قلب الرجل العجوز سينفجر بالتأكيد. والآن اجتاحني رعب جديد، هل سيأخذ هذا الصوت في الارتفاع حتى يسمعه الجيران؟ .. عندئذ وبدون التأخر دقيقة أخرى، أتخذت قراري. لقد حانت ساعة الرجل العجوز وبصرخة مدوية ألقيت بالفانوس بعد جذب كل فتحاته ثم قفزت داخل الغرفة. 

فصرخ مرة.. مرة واحدة فقط.. وفي الحال جذبته إلى الأرض ثم قمت بسحب المرتبة الثقيلة فوقه. عندئذ ابتسمت بسرور. فقد أنجزت العمل !. 

ولكن لعدة دقائق استمرت دقات القلب ولكن بصوت مكتوم، ولكني لم أكثرت، فأنني أعلم أنها لن تسمع من خلال الحائط وفي النهاية توقف الدق.. لقد مات الرجل العجوز.. ! 

أزحت المرتبة جانباً وقمت باستطلاع النتيجة- نعم- لقد تحجر- اصبح حجر ميتاً- وضعت يدي على القلب ثم انتظرت لعدة دقائق. لم يكن هناك صوت. أنه بالتأكيد قد أصبح حجراً ميتاً، ولن تقلقني عينه مرة أخرى. وإذا كنت لا تزال تعتقد أنني مجنون، فأنك لن تستمر في هذا الاعتقاد، خصوصاً بعد أن أشرح لك الاحتياطات الحكيمة التي قمت بها لاخفاء الجثة. 

لقد انتزعت ثلاثة ألواح من أرضية الغرفة، ثم وضعت الجثة في الفراغ الذي بين الألواح وأرضية المنزل ثم قمت بإعادة الألواح الثلاثة بعناية، بحيث لا يمكن للعين حتى عينه هو أن تلحظ وجود أي خطأ، ثم قمت بأعادة المرتبة على السرير، وأعدت ترتيب السرير حتى يظهر وكأن أحد لم ينم عليه. 

كان الليل على وشك أن ينقضي، فأخذت أعمل بسرعة ولكن في صمت، وبمرور الوقت اصابني الأرهاق، كانت الساعة الرابعة صباحاً، ولكن الظلام لا يزال دامساً تماماً كمنتصف الليل. 

وما أن أعلن جرس الكنيسة عن الساعة، حتى جاءت طرقة على الباب الخارجي، وفي جذل نزلت لأفتح الباب، فلم يعد لدي ما أخاف منه. كان هناك ثلاثة رجال، وبأدب شديد قاموا بتقديم انفسهم كضباط للشرطة. 

(" سمع الجار صرخة أثناء الليل") قال أحدهم موضحاً: " هذا الجار تصور مسرحية بلهاء، ثم جاء على اثر ذلك إلى قسم البوليس، وبناء على عليه تم ارسالنا لتفتيش المبنى" 

ابتسمت لهم، فما الذي يدعوني للخوف. : " تفضلوا .. تفضلوا " رحبت بالضابط قائلاً "آه الصراخ أنني آسف أن كان قد أزعج أحد، فلقد كان حلماً أو كما تعلمون كابوساً، ولكن كل شيء على ما يرام الآن" وبينما نحن نتحدث أخذت اقود ضيوفي خلال المنزل: " الرجل العجوز قد ذهب كما تعلمون، ذهب للراحة بضعة أيام في القرية ولكن تعالوا لتروا بأنفسكم"

واصطحبت زواري خلال كل أنحاء المنزل، وطلبت منهم البحث، والبحث جيداً، وفي النهاية اصطحبتهم إلى غرفته، وعرضت عليهم كنوزه، في أمان وبدون اي ازعاج. 

وبمنتهى الثقة، احضرت مقاعد لهذه الحجرة وطلبت من الضباط أن يستريحوا هاهنا من عناء العمل، فأنا شخصياً كنت اشعر بمنتهى الجرأة نظراً لانتصاري المتكامل، حتى أني وضعت الكرسي الخاص بي عند موضع- موضع محدود على الارض.. يرقد تحته جسد الرجل العجوز. 

كنت أشعر براحة تدعو للعجب، وكان الضباط مقتنعين.. فقد كان اسلوبي مقنعاً بالنسبة لهم لدرجة أنهم جلسوا وآخذوا يتسامرون في أمور عادية، وأنا أجيب بمرح ولكن بعد فترة بدأت أتمنى أن يذهبوا، فقد بدأت راسي في التصدع، وأعتقدت أنني قد سمعت صوت رنين في أذني. 

استمروا في الجلوس والتسامر، واستمر الرنين في أذني.. وأصبح أكثر وضوحاً.. وفي محاولة للتغلب على هذا الرنين أخذت أتكلم بطلاقة أكثر.. ولكن الرنين استمر وأصبح اعلى.. وأعلى.. حتى تبين لي في النهاية أن الصوت لم يكن في أذني ماذا عساي أفعل؟ اصبحت شديد الشحوب ولكني أخذت أتحدث بطلاقة أكثر، وبصوت أعلى ومع ذلك ازداد الصوت، لقد كان صوتاً كئيباً خافتاً وسريعاً، صوت قد يكون آتياً من ساعة ملفوفة في قطن، وأخذت أتنفس بصعوبة ومع ذلك يبدوا أن الضباط لم يسمعوا شيئاً، فتحدثت أسرع وبصوت أعلى، ولكن الصوت أخذ في الأزدياد بانتظام. 

انتفضت واقفاً وأنا أجادل في أمر تافه، أجادل في نبرة عالية، وايماءات صاخبة عنيفة، ولكن الصوت أخذ في الازدياد بانتظام. 

لماذا لا يقوم هؤلاء الضباط بالانصراف؟؟! .. وأخذت اقطع أرض الحجرة جيئاً وذهاباً.. بخطوات ثقيلة، متظاهراً بالانفعال إلى درجة الهياج بسبب الأمر التافه الذي نناقشه، ولكن الصوت أخذ في الازدياد بانتظامر آه يا إلهي.. ماذا استطيع أن أفعل؟! 

أخذت أهذي وأرغى وأقسم، ثم التقطت الكرسي الذي كنت جالساً عليه وأخذت أحركه محدثاً أزيزاً على ألواح الأرض، ولكن صوت احتكاك الكرسي بأرضية الحجرة تلاشى تماماً إلى جانب الصوت الآخر، الذي أخذ في الازدياد باستمرار .. وأصبح أعلى ..  أعلى .. 

ومازال الرجال يتسامرون في انسجام.. ومازال الرجال يبتسمون.. هل من الممكن أنهم لا يسمعون شيئاً، يا إلهي القدير..  لا .. لا .. لقد سمعوا.. بل هم يشكون.. لقد عرفوا .. إنهم يقومون بالسخرية من هلعي. 

هذا ما اعتقدته في ذلك الحين، وهذا مازلت اعتقده إلى الآن، ولكن .. آه.. يا لكربي اي شيء يمكن أن يكون افضل من هذا الكرب، أي شيء يمكن أن يكون أيسر من أن أتحمله إلا سخريتهم. لن أستطيع تحمل ابتساماتهم الساخرة أكثر من ذلك. 

لقد شعرت بأنني يجب أن أصرخ أو أموت..  والآن لقد عاد الصوت مرة أخرى.. اسمع .. لقد أصبح أعلى وأعلى.. "أوغاد" صرخت في وجه ضباط الشرطة .. "لا تتظاهروا أمامي طويلاً، لا تسخروا مني أكثر من ذلك"

" أنني أعترف بكل شيء، أنزعوا الألواح هنا..  هنا.. إنها دقات قلبه البشع" 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش